الأخ إيليا كيرلسفي بداية الثمانينات، شرَّفني الرب أن أخدم في ملجإ للكفيفات. وكانت هناك أخت كفيفة في الستينات من عمرها تقيم في قرية "باخوم" بأسيوط، وهي الآن مع الرب. وطلبوا مني أن أُسافر لآتي بها إلى الملجأ بالقاهرة. وكانت تعيش أختنا هذه في كوخ من الطين، ليس فيه إلا مصطبة من الطين و"كانون" للطهي!

ولكنني لن أنسى أبدًا عندما دخلتُ عندها وصلّينا معًا قبل العودة إلى القاهرة. لقد فاض قلبها وهي تصلّي في هذا الكوخ قائلة للرب: "أشكرك لأنك أعطيتني كيلاً جيدًا مُلبَّدًا مهزوزًا فائضًا." (لوقا 38:6)
وكم اندهشت لهذه الحالة النادرة. ولم أجد تفسيرًا لهذا الفرح والشبع والسموّ لأختنا هذه، رغم فقرها المدقع، إلا الكلمة التي قالها الرسول بولس: "فإني قد تعلّمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه." (فيلبي 11:4)
إنها الفضيلة التي نحتاج إليها جميعنا، ألا وهي "الاكتفاء".

ما هو الاكتفاء؟

هو حالة قلبية داخلية من الرضا، يشعر فيها الإنسان بأنه لا ينقصه شيء، بل وكأنّه يمتلك كل شيء. وهذا ما قاله الرسول بولس: "مُكتفيًا بما أنا فيه"، أي لا يوجد لديه أيّ شعور بالحاجة لشيء. فهل نستمتع بهذه الحالة؟

أسباب عدم الاكتفاء

1- فراغ القلب البشري: في داخل قلب الإنسان فراغ واحتياج وجوع، لا يمكن أبدًا أن يملأه شيء ما. وهذا ما عبَّر عنه سليمان الحكيم بالقول: "كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ... الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ." (جامعة 7:1-8)
2- الأشياء لا تُشبع القلب: لا يمكن أبدًا للأشياء المادية أن تملأ احتياجات نفسية وروحية. فلا يمكن لأحدث الموبايلات أو أحدث السيارات، أو حتى الشهوات، أن تملأ قلبًا حزينًا فارغًا. والإنسان يجري وراء الأشياء وهو لا يعلم أن "كُلّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا." (يوحنا 13:4)
3- السباق المحموم والسريع للاختراعات: مع ازدياد السباق في الاختراعات الحديثة، تجد الناس تلهث جريًا وراءها، سواء في مجالات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، أو صناعات السيارات. فما اشتريته بالأمس يصبح اليوم لا قيمة له؛ ولذلك كل واحد يريد ما هو جديد، ولا اكتفاء.

خطورة عدم الاكتفاء

1- حالة من الحزن والكآبة المستمرة: آه من الكآبة التي تسيطر على القلب غير المكتفي، بل دائمًا يتملَّكه شعور بالحسرة على ما لم يحصل عليه، بالرغم مما يمتلك بالفعل. وهذا ما حدث مع أخآب الملك، عندما فشل أن يحصل على قطعة كرم صغيرة ليضيفها إلى ممتلكاته الكثيرة "فَدَخَلَ أَخْآبُ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا مَغْمُومًا... وَاضْطَجَعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا." (1ملوك 4:21)
2- اللجوء لطرق غير مشروعة: حذار يا نفسي! فالرغبة المحمومة في امتلاك المزيد، تقود الإنسان ليسلك أيّ طريق، حتى غير المشروعة، ليحصل على ما يريده. هذا ما فعله أمنون ابن داود، حينما تملَّكته الشهوة الجنسية، فلجأ لخطة خبيثة ليغتصب فتاة مسكينة اسمها ثامار، والكارثة الكبرى أنها كانت أخته، فيا للعار!
3- الاستعباد للأشياء: إن الشخص غير المكتفي هو دائمًا في وضع الاحتياج والنقص، لا يمتلك الأشياء بل مستعبدٌ لها، وينطبق عليه قول الحكيم سليمان: "يَتَفَاقَرُ وَعِنْدَهُ غِنًى جَزِيلٌ،" (أمثال 7:13) تمامًا كما كان فليكس الوالي يستدعي بولس، وهو أسير، ليأخذ منه دراهم! الوالي الكبير يتسوّل دراهم من الأسير! (أعمال 26:24)

الطريق للاكتفاء

1- المسيح يملأ القلب: شخص الرب يسوع وحده هو الذي يملأ كيان الإنسان الداخلي لا الأشياء؛ فلقد قال ربنا يسوع: "مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ." (يوحنا 14:4) وقال داود النبي للرب: "أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ... أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأَبَدِ." (مزمور 2:16 و11) وقال آساف أيضًا: "مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ." (مزمور 25:73)

2- التدريب الروحي: يحتاج المسيحي الحقيقي إلى تدريب نفسه في محضر الله على أمور كثيرة وهامة، منها الاكتفاء؛ حتى لا يصبح أسيرًا محتاجًا لشيء. لذلك يقول الرسول بولس: "فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ... فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ." (فيلبي 12:4)

3- تكفيك نعمتي: هناك علاج واقٍ، اسمه النعمة، يحفظ القلب ممتلئًا وشبعانًا؛ فلا يتضوّر جوعًا ويحتاج أن يبحث عما يشبعه. ما أروع أن تجلس مع إلهك، عزيزي، فتسمع همساته في قلبك: "تكفيك نعمتي."

4- كونوا مكتفين: إنها وصية إلهية لكل من يسير وراء الرب. "كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ." (عبرانيين 5:13) والمعنى المقصود بالعبارة "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء"، هو أن ما أمتلكه الآن هو كل ما أحتاج إليه، وهذا يجعلني راضيًا وقانعًا بما أنا عليه.
أحبائي، ما أروع الاكتفاء! وما أسعد المكتفين! في عالم لا يعرف القناعة ولا الشبع، يسوده الطمع والشراهة الشهوانية، تحوَّل الناس فيه إلى "وحوش رديّة بطون بطالة." (تيطس 12:1)
لكن، ما أسعد أولئك الممتلئين بالمسيح، والممتَلَكين من روحه، يترنمون في كل الأحوال "فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ... فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي." (حبقوق 17:3)
فهل نحن مكتفون، راضون وشاكرون؟

المجموعة: حزيران (يونيو) 2018