الأخ جوزيف عبدوما أعظم الكمّ وأكبر المقدار لكلمات بني البشر، التي ينطقونها بألسنتهم، منها المدوّنة في الكتب والمطبوعات المختلفة، أو المسجلة في الحافظات الصوتية؟! أما عن الكلمات التي تقال في أحاديث الناس وتعاملاتهم الشفويّة دون تدوين أو تسجيل فحدِّث ولا حرج!

ولكن هناك نوعٌ آخر من الكلام، لا حروف ظاهرة له ولا حركات صوتية أيضًا، قد يكون أبلغ أثرًا، وأكثر فاعلية من سواه... ورغم أنه يستحيل على غير صاحبه فهمه أو معرفة مقاصده، إلا أنه معروف ومفهوم لدى الله، وهو مسجّل عنده لا يضيع منه حرف واحد!

أولًا : إن أداة ذلك النوع من الكلام هي ما يسمّى بـ "لسان الحال"، وذلك خلافًا للسان المقال، ويشار إليه رمزيًا "بالقلب"، وليس القلب اللحمي الذي ينبض ويحرك الدورة الدموية في الجسم! فهو بريٌّ من الكلام ومن الأفكار أيضًا، ولكن كلمة "قلب" في الكتاب المقدس فهي ترمز إلى دواخل النفس البشرية، بما يشمل الأفكار والتصوّرات والرغبات وغيرها. فللأقوال في القلوب مضامينها ومقاصدها، فهي تعبّر عن المحبة لله وللآخرين، والعطف، والتواضع، وحب الخير، وقد تعبّر عن العداء لله، وجحود فضله، والكبرياء، والشك وما إليها. فليس ما يقوله الإنسان في قلبه مبهمًا ولا هو عديم القصد والمفعول. فإنه ينشأ أولاً في ذهن الشخص ثم يترجم في داخله إلى كلمات في لغته الخاصة. وإن كانت غير منطوقة ولكنها مفهومة لديه، ومنسجمة مع توجّهاته، وأحيانًا تترجم هذه "المشاعر" إلى حركات تؤديها بعض أعضاء الجسم أيضًا.
قال سليمان الحكيم: "اَلرَّجُلُ اللَّئِيمُ، الرَّجُلُ الأَثِيمُ يَسْعَى بِاعْوِجَاجِ الْفَمِ. يَغْمِزُ بِعَيْنَيْهِ. يَقُولُ بِرِجْلِهِ. يُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ. فِي قَلْبِهِ أَكَاذِيبُ. يَخْتَرِعُ الشَّرَّ فِي كُلِّ حِينٍ. يَزْرَعُ خُصُومَاتٍ."
قال بولس الرسول: "وَأَمَّا الْبِرُّ الَّذِي بِالإِيمَانِ فَيَقُولُ هكَذَا: «لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ: مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟» أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسِيحَ، «أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟» أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ." (رومية 6:10-7) مبيّنًا أن البر الذي بالإيمان لا يحتمل الشك ومشاعر عدم الثقة وإن كانت غير ظاهرة لفظيًا.
وقال سليمان الحكيم: "قُلْتُ أَنَا فِي قَلْبِي: «هَلُمَّ أَمْتَحِنُكَ بِالْفَرَحِ فَتَرَى خَيْرًا». وَإِذَا هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ." (جامعة 1:2) معبّرًا بدون كلام منطوق عن بعض مشاعر التمرّد على الوصية وحتى على المبادئ التي كان يؤمن بها.

ثانيًا لا تتوقف المسؤولية الأدبية للإنسان على الأعمال التي يقوم بها أو الكلمات التي ينطقها بشفتيه، ولكن هذه المسؤولية تشمل الكلمات التي يقولها في "قلبه" أي "بلسان حاله".
قال داود في سفر المزامير: "يَا رَبُّ، قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي (لسان حالي)، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا." (مزمور 1:139-4)
وقد اعترف أمام الله بتلك الأقوال الخفية في داخل قلبه والتي كثيرًا ما تأتي في حالات السهو والشرود بقوله: "اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا؟ مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي." (مزمور 12:19)

أ- فجميع تلك الخفايا يقرأها ويعرفها الله الآب ويدرك أهدافها ومضامينها ويعاقب على السيّئ منها. وقد كانت السبب الرئيس في سقوط الشيطان وتحوّله من رئيس ملائكة نور إلى رئيس أبالسة الجحيم، كما نقرأ ذلك في التوبيخ الموجّه له من الله والمدوّن في نبوءة إشعياء:
"وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. لكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ." (إشعياء 13:14-15)

ب- كما عرف يسوع ابن الله المتجسد بالروح، أي بقوة لاهوته، ما قيل أو يقال أو سيقوله الكثيرون وذلك أثناء فترة وجوده بالجسد.
1- فقد عرف أيضًا ما كان في الماضي: فقد قال لليهود الذين قاوموه وعارضوا إرساليته إليهم مدّعين أنهم أولاد إبراهيم: "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ." (يوحنا 56:8) فقد رأى إبراهيم يسوع بالرؤيا وذلك قبل تجسد الرب، وتلك الرؤيا تُرجمت في ذهن إبراهيم إلى كلمات مفهومة لديه وعرف مضمونها ففرح.
2- عرف يسوع ما كان في قلوب أهل عصره مرارًا كثيرة، نذكر منها هذه الحادثة: "وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ. وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ الْغَدَاءِ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافًا وَخُبْثًا.]" (لوقا 37:11-39) فقد كان تقليد الفريسيين هو غسل أيديهم باعتناء قبل أن يتكئوا لتناول الطعام، ولم يفعل يسوع ذلك فانتقده في قلبه.
3- عرف يسوع أيضًا ما سيقوله الناس في قلوبهم في المستقبل. فحين كان يُساق إلى الصلب وكانت نساء من أورشليم يبكين خلفه "فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ:
«يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ! حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا!]" وقد أشار بذلك إلى الضيقة الجزئية التي كانت ستحدث سنة 70 ميلادية عن خراب أورشليم من قبل تيطس الروماني وجيشه وإلى الضيقة العظيمة التي ستحدث بعد اختطاف الكنيسة، وقولهم "للجبال والآكام"، سوف لا يكون شفهيًا لأن الجبال والآكام لا تسمع ولكنه سيكون مطلبًا في قلوبهم.
ج- وكذلك فإن الروح القدس أيضًا أعلن هذه المعرفة للأنبياء حيث دوّنت أقوالهم عنها في كلمة الله في العهدين القديم والجديد.
فأليشع النبي كان يحذّر ملك إسرائيل ويخبره مسبقًا عن المواقع التي كان ملك آرام ينوي أن يقتحمها وحاول أن يعرف الجاسوس الذي يفشل خطته. "فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِهِ: «لَيْسَ هكَذَا يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ. وَلكِنَّ أَلِيشَعَ النَّبِيَّ الَّذِي فِي إِسْرَائِيلَ، يُخْبِرُ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ بِالأُمُورِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ بِهَا فِي مُخْدَعِ مِضْطَجَعِكَ»." (2ملوك 12:6)
لقد حلم نبوخذنصّر ملك بابل حلمًا فانزعجت روحه وطار عنه نومه. فطلب من السحرة والمجوس والكلدانيين أن يخبروه بالحلم وبتفسيره. ولما عجزوا أمر بإبادتهم جميعًا، ولكن دانيآل النبي عرف بالروح القدس هذا السر الذي أخفاه الملك في قلبه. "أَجَابَ دَانِيآلُ قُدَّامَ الْمَلِكِ وَقَالَ: «السِّرُّ الَّذِي طَلَبَهُ الْمَلِكُ لاَ تَقْدِرُ الْحُكَمَاءُ وَلاَ السَّحَرَةُ وَلاَ الْمَجُوسُ وَلاَ الْمُنَجِّمُونَ عَلَى أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلْمَلِكِ. لكِنْ يُوجَدُ إِلهٌ فِي السَّمَاوَاتِ كَاشِفُ الأَسْرَارِ، وَقَدْ عَرَّفَ الْمَلِكَ نَبُوخَذْنَصَّرَ مَا يَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ.]"
وبطرس الرسول عرف بالروح القدس ما أخفاه حنانيا وسفيرة في قلبيهما من جهة الإنقاص من ثمن الحقل الذي باعاه ليقدّما الثمن إلى الكنيسة. "فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ؟]" (أعمال 3:5)
عزيزي القارئ الكريم،
هلاّ علمت أن هذا الموضوع على درجة كبيرة من الخطورة، لأن ما ننويه أو نقوله في قلوبنا قد يوازي ما ننطق به بشفاهنا، وما نفعله أيضًا إلى جانب ما نسمعه وما ننظره إراديًا إن كان لا يرضي الله، فالله القدير لا يرى الظواهر فقط بل يرى من عليائه البواطن أيضًا. وإن كانت هذه الحقيقة الروحية غير واضحة للبعض بسبب كونها من الخفيات، ولكن "عينَيّ الله تكشفان أستار الظلام." فنرجو الله أن يكشف عن أذهاننا لنضع هذه الأمور جميعها تحت دم المسيح الذي "يطهّر من كل خطية"، وأن نحذر من وساوس الشيطان عدوّ الخير، والله القدير يقوّينا ويثبتنا بحسب وعده.

المجموعة: تموز (يوليو) 2018