الأخت أدما حبيبيورثَ أحدُ الشباب الملايين من الدولارات عن أبيه ثم تزوج من بعدها بفتاة جميلة أكثرَ منه ثراءً. ولكن ما هي إلا شهور ستة حتى توفيت الزوجة. فحزن الزوج حزنًا شديدًا على موت زوجته وقررَ ألا يتزوجَ من بعدها بأحد، محدِّثًا نفسه: كان هذا هو نصيبي وأنا راضٍ به. وبالطبع ورثَ كل ثروتها من بعدها. وأخذ عهدًا على نفسه حينذاك بأن يخصِّص كل هذه الأموال لمن هم بحاجةٍ إلى المساعدة.

وللحال ترك القصر الذي كان يعيشُ فيه، وحوّله إلى دارٍ لضيافة الكبار في السن. فتح أبوابَ القصر لهم واستقبلهم بكل ترحاب وأمَّن لهم كلَّ ما يحتاجونه من طعام وشراب ومنامة مجانًا، ودون أي مقابل إلى أن يفارقوا هذه الحياة. وقام أيضًا ببناء مستشفى كبير أطلق عليه اسم "مستشفى الراعي الصالح" مستعينًا بأكبر الخبراء في تشييده وتجهيزه بكافة المعدات الحديثة وغرف للعمليات المجهزة بأحدث الآلات. وكان كلُّ مَن قصد ذلك المستشفى يلقى العلاج اللازم من دون أي مقابل. وشدد على المسؤولين بأنَّ مهمة المستشفى الأولى والوحيدة هي خدمة المرضى وتقديم العون والمساعدة والعناية الفائقة لكلِّ من حَضر دون تمييز.
لم يكتفِ الرجل الثري بهذا القدْر بل قام أيضًا ببناء كنيسة اعتُبرت من أجمل الكنائس لِما امتازت به من روعة البناء واللوحات الأخّاذة والزجاج الملوّن، وأحاطها بحديقةٍ غنَّاء فسيحة. كانت أبواب الكنيسة تظل مفتوحةً نهارًا وليلًا، طوال أيام الأسبوع، حتى يأتي إليها كلُّ من يحتاج إلى الاختلاء مع الله والصلاة والتأمل والاستماع إلى التراتيل والتهاليل والتسابيح. وفي كل أحد كان يستيقظ الرجل في الصباح الباكر ليقطفَ الورود والأزهار ويتوجَّه بعدها إلى داخل الكنيسة فينسِّقها بانتظام ويوزّعها على أرجائها كافة لينعمَ المصلّون والعابدون بمنظرها الجذاب ورائحتها الفوّاحة أثناء تأدية العبادة.
وفي أحد الأيام ذهب الرجل إلى معملٍ للرخام واشترى قطعةً كبيرة منه، وحفر عليها بضع كلمات ووضعَها داخل إحدى غرف المستشفى وأغلق عليها بالمفتاح واحتفظ به. وكتبَ وصيةً عمل منها ثلاثَ نُسخٍ أودَع أحدَها في دار الضيافة، والثانية في الكنيسة، والثالثة في المستشفى. وطلب في هذه الوصية بأن يُدفنَ تحت مدخل الكنيسة وأن توضع قطعةُ الرّخام فوقَ القبر حتى يمرّ الداخلون فوق قبرِه. وبقى يعتني بنفسه وبالناس، ويسأل عن صحتهم بشكل يومي ودائم. وظلَّ يقدم المساعدة لكل محتاج وسقيم. وحين كان المرضى يمتدحونه كان يرد عليهم بالقول: ما أنا سوى عبدٍ بطَّال يحاول أن يتشبَّه بسيده المسيح الذي غسل أرجل تلاميذه. وحين مات، دفنوه تحت مدخل الكنيسة تمامًا كما أوصى، وذهبوا إلى المستشفى وأحضروا قطعةَ الرخام ووضعوها فوق قبره. فقرأوا عندئذ الجملة المكتوبة التي تقول:
"هنا يرقد عبدُ الرب البطَّال خادمكم الوضيع. لأنه أين هو من عظَمة الخالق! فاذكروه كلما وطِئتْ أقدامُكم فوق شاهدِ قبره وأنتم تدخلون هذه الكنيسة."
كانت هذه قصة قرأتها على صفحة التواصل الاجتماعي لفتتْ نظري بالحق. لقد ترك هذا الرجل صاحب المال والجاه والسلطان أثرًا كبيرًا في حياة الكثيرين من مرضى ومعوزين وعجَزة أحبَّهم وتفرّغَ لهم كما وبذل كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل العناية بهم والاهتمام بحاجاتهم نفسًا وروحًا وجسدًا. وتساءلتُ: ترى ما هو الأثر الذي نتركه نحن وراءَنا ودون أن نفتخر بما فعلناه أو قدَّمناه من عون أو مساعدة أو خدمة للآخرين؟ ما هو الإرث الحقيقي Legacy الذي نتركه لأولادنا كيما يتمثلوا بنا بعد أن نرحل عن هذا العالم الفاني والزائل؟ لقد تمثَّل هذا الرجل المؤمن بسيده المسيح الذي تنازل وغسل أرجل تلاميذه وترك لنا جميعًا مثالًا يُحتذى ونموذجًا حيًا ساميًا للاتضاع الحقيقي والخدمة الخالية من كل أنانية ومصلحة ذاتية. ألم يقل الفادي المسيح هذه الكلمات: "كذلك أنتم أيضًا متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون." (لوقا 10:17)

* * * * * *

منذُ وقت قصير فقط ودّعنا أخًا لنا محبوبًا في الرب في الكنيسة، وحضرْنا جميعُنا مراسيم دفنِه. ودمعت العيون وحزنت القلوب على فراقه وانتقاله من هذا العالم الفاني الزائل المليء بالمرض والألم والمعاناة. لكنَّ عزاء الأسرة والأقرباء، وعزاء الأصدقاء، كان واضحًا على وجوه الجميع لأنَّه كان نابعًا فعلًا من الرجاءِ المُعطى لكل مؤمن، بالحياة الأبدية في السماء. فخدمة الجنازة كانت بمثابة احتفال حقيقي بحياة هذا الشخص الذي أدرك في وقت ما بأنَّ روحه الخالدة سترتاح يومًا ما في أحضان فاديه ومخلّصه الرب يسوع المسيح الذي سلّم حياته له بالكلية، ووثق بما عمله من أجله شخصيًا على الصليب كيما يمنحَه خلاصًا وغفرانًا كاملًا يؤهلانه إلى الدخول إلى الأمجاد السماوية فورَ انتقاله من هذا العالم الفاني. نعم، وعلى رجاء القيامة رقد أخونا المحبوب، وأودعنا جسده في قلب الأرض، أمَّا روحُه فمثلت أمام محضر الرب يسوع حيث بدأتْ رحلة حياته إلى الأبد. لأن "من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة." (1يوحنا 12:5)
وحين شارك الأحفادُ بانطباعاتهم عن جدهم الغالي، تكلموا بكل صدق وشفافية عن الأثر الكبير الذي تركه فيهم جميعًا. وكان على رأس ما شاركوا به هو أنَّه علَّمهم الصلاة الربانية وباللغة العربية. نعم، هذا هو الإرث الصالح الذي يجب على كل مؤمن بالمسيح أن يزرعه في أولاده وأحفاده. وحين رنَّمت الجوقة ترنيمة: "أجهل ما سوف يأتي"، تمتعت أنا نفسي بالكلمات المؤثرة لهذه الترنيمة ومعانيها العميقة، وقلت: حقًا، ما أجمل أن يتمتع الإنسان المؤمن وهو بعد في حياته على هذه الأرض الزائلة بهذه العلاقة مع إلهه، وهذه الثقة الأكيدة بأنَّ حياته هي بيد إله محب وحنون يهتم به إلى ما لا نهاية. يبقى الإنسان محدودًا في معرفته لما سيحصل له في المستقبل، لكن حين تكون حياتُنا كلها بين يدي الرب فلنا ملءُ اليقين بأنَّ ما هو مجهول بالنسبة لنا، معلومٌ عنده هو. وهذا اليقين يولِّد فرقًا كبيرًا في حياتي ومماتي.
يقول المرنم في هذه الأبيات الجميلة:
-1-
أجهلُ ما سوف يأتي في الغد أو بعده
فالغدُ في علْم ربي ليس خافٍ عنده
ليس همّي ما يصيرُ من أمورٍ آتيات
همّي أن أُرضي ربي في الحياةِ والممات
القرار
لستُ أدري ما يكونُ من حياتي في الغد
أعلمُ شيئًا يقينًا ربّي مُمسكٌ يدي
-2-
أعلمُ الدربُ منيرٌ أعلمُ ربي أمين
فهو لي خيرُ رفيقٍ وهو لي خيرُ معين
عن قريبٍ سوف أمضي إلى موطن الخلود
حيثُ لا الدمعُ يسيلُ لا ولا الموتُ يسود
-3-
أجهلُ المستقبلات أجهلُ ما سيكون
إنَّما أعلم أنَّ سيدي آبٌ حنون
فهو يُعنى بالطيور وكذا بي يعتني
دمُه يكفيني سترًا روحُه يملأني

I don't know about Tomorrow-
By Ira Stanphill 1914-1993
(ترجمة القس الطيّب الذكر يوسف قسطة)
فهل لديك صديقي هذه الثقة وهذه اليقينية بأنَّك حالَما تغمضُ عينيك ستكون في محضر الرب يسوع المخلص الوحيد والفادي الأمين؟ هل سلَّمتُه حياتك وكيانَك فصرت واحدًا من أولاده، وأصبحت لك مع الله الآب شركة وعلاقة صحيحة؟ (يوحنا 12:1) وهل أنتَ على ثقةٍ كاملة بأنَّه ممسكٌ يدَك، وأنَّ مستقبلَك بكامله هو بقيادته وتحت إشرافه؟ ثم، ما هو الإرث الذي ستتركُه لأولادك من بعدك؟ هل هو إرثٌ أرضي حيث يُفسد السوس والصدأ، أم إرثٌ أبدي سامٍ وقيّم والذي لا يضاهيه شيء في هذا الوجود؟

المجموعة: تموز (يوليو) 2018