لأعرفه: مولد الرجاءيحمل البريد إلينا كثيرًا عروضًا وخططًا لأفضل الطرق لحياة تقاعد آمنة بعد التوقّف عن العمل والخروج إلى المعاش. خطط رائعة وبتكلفة قليلة في متناول يد الكثيرين، لكن جميعها رغم اختلافها تتفق على افتراض أن الإنسان سيعيش إلى الأبد، وأن الأموال التي سيستثمرها ستتزايد وتتراكم وتتوافر لسنوات كثيرة لا تنتهي.

حين أراد يسوع أن ينبّه الجموع الذين التفوا حوله أن حياة الإنسان ليست في أمواله، أعطاهم مثلاً وقال:
"إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَّلاَتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي! فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟"
أَحسَنَ التفكير وأحكم التدبير في كل شيء إلا أنه لم يحسب حساب الموت الذي يتربص لينقضّ في وقت لم يتوقّعه ولم يستعد له!
__________
دخل يسوع بيت عنيا بعد أن مات لعازر ودُفن وصار له أربعة أيام في القبر.
استقبلتاه أختا لعازر مرثا ومريم وهما تتزران بملابس سوداء، لون الموت! كانتا حزينتين تبكيان في لوعة ومرارة وانهيار طوال أيام مرض لعازر وهما تنتظران مجيء يسوع. بمرور الوقت فقدتا الأمل ونفذ الرجاء وحلّ بهما الألم. رآهما يسوع وحولهما الجيران والأصدقاء في أردية سوداء يبكون في صمت أو عويل؛ انزعج بالروح واضطرب. مشاعره داخله كانت تتلوّى ألمًا وحزنًا فانفجر باكيًا وسالت دموعه على كل وجهه. زاد من حدة المشهد كلمات مريم التي امتزجت بانكسار وعتاب:
- "يا سيد، لو كنت هنا لم يمت أخي!"
امتزج حزنه بغضب. أغضبه الموت لما سببه من ألم لأحبائه مرثا ومريم والذين حولهما. بكى يسوع وانزعج لاقتحام الموت بيت هذه الأسرة العزيزة عنده. وقف متحديًا له وسأل:
- "أين وضعتموه؟"
الحضور جميعًا سمعوا السؤال - كانوا يعلمون جيدًا أن لعازر قد مات وأنتن - لكن كان في نبرات صوت يسوع تحديًا وعلى وجهه تصميمًا وإصرارًا على الدخول في معركة!
أين وضعتموه؟ غمغموا:
يا سيد، تعال وانظر...
جاء إلى القبر والجموع تتبعه. تقدمهم ثم وقف مواجهًا القبر والحجر على بابه.
نظر إلى مرثا وإلى مريم والتقت عيناه بعيونهما وتذكرت مرثا قوله لها منذ قليل:
- أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو مات فسيحيا.
وغرّد في قلبها رجاء.
وقف في قوة وتحدٍّ، ورفع عينيه إلى السماء حيث الآب وصلّى: أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي... وأنت في كل حين تسمع لي. ولأجل هذا الجمع ليؤمنوا. ثم صرخ بصوت عظيم:
- "لعازر، هلمّ خارجًا!"
ارتعب الموت من صوت يسوع المسيح... الحياة!
تحرك الميت ونفض عنه الموت وخرج واقفًا أمام الجميع.
- حلّوه ودعوه يذهب.
حلّوا ربطه وذهب إلى بيته وإلى أختيه وتحقق ما ترجتاه!
__________
بعد الصلب في أول الأسبوع، في الفجر، أتين إلى القبر حاملات الحنوط. وجدن الحجر مدحرجًا. دخلن لكنهنّ لم يجدن جسد يسوع. رأين رجلين بثياب براقة قالا لهنّ:
- لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ ليس هو ههنا، لكنه قام!
رجعن وأخبرن الأحد عشر. أما مريم فكانت واقفة عند القبر تبكي. التفتت إلى الوراء ونظرت يسوع واقفًا. ظنته في بادئ الأمر أنه البستاني. توسلت إليه بدموع:
- قل لي أين وضعته؟
- يا مريم!
رنت الكلمة في سمعها رقيقة عميقة حنونة. أدركت أنه المعلم... صاحت: ربوني!
- اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.
بعد أن قام المسيح من بين الأموات تغيّر كل شيء. انهزم الموت: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتكِ يا هاوية؟" (هوشع 55:15) يسوع حي، ونحن به نحيا! هكذا وُلد الرجاء.
__________
وفيما هو يستعد للذهاب إلى الآب قال: "خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله لكم." وانتظر التلاميذ والرسل على رجاء مجيء المعزي...
ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت... وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم وامتلأ الجميع من الروح القدس. ثم وقف بطرس ورفع صوته وقال: "هذا ما قيل بيوئيل النبي: يكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلامًا. ثم قال: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس.
وُلد الرجاء وجاء الروح القدس وحلّ على التلاميذ وبالرجاء يحلّ على كل من يؤمن بالمسيح وبوعوده.
__________
المؤمن الحقيقي يعيش على رجاء مجيء المسيح الثاني الذي تؤكده كلماته: "لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ... أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا، وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ." (يوحنا 3:14)
هذا هو الرجاء الذي ولد في قلوبنا ويعيش فيها حتى تتحقق كل وعود الرب إلهنا، آمين.

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2018