الدكتور جون حدادبين صراع الأجيال والفكر المجتمعيّ الحديث
في هذا العالم الحديث والمتطوّر، هل يمكن لأحدٍ ما أن يعتقد بأنّ الكتاب المقدَّس هو لكلّ العصور والأجيال؟ هل يستحقّ هذا الكتاب "القديم الأيام" أن نقرأه في العصر الحديث، وأن نتمسّك بتعاليمه؟

وهل يصلُح فعلاً لمجتمعاتنا المعاصرة في إظهار وتأكيد العِلم الحديث؟

نظرة الأجيال وموقفها من الكتاب المقدّس
كإنسانٍ ينتمي إلى الجيل الحديث، لا أعتقد إطلاقًا أنّ آباءنا وأهالينا كانوا يظنّون بأنّ الجيل القادم بعدهم سيكون مختلفًا بشكلٍ جذريّ عن جيلهم وممارساتهم كما هو الحال في أيامنا هذه. لقد نموا وتربّوا في محيطٍ محافظ، ميسوري الحال اقتصاديًا، وأمناء روحيًا في حياتهم، ففلحوا وأنشأوا عائلاتٍ رائعة وعرفوا كيف يعيشون حياتهم بفرحٍ واكتفاء. أما اليوم، فأجيالنا في صراعٍ مع الزمن في تأمين متطلّبات الحياة الكثيرة رغم التطوّر والتكنولوجيا والتقدّم العلميّ.
فنحن، جيل الحداثة والانفتاح، نبدو وكأننا من طينةٍ مختلفة عن أهالينا وأجدادنا، نستخدم كل التّقنيات المتاحة لدينا لِنَنعم برغد العيش، لكنه لا يطمئنّ لنا بال أو يهدأ لنا مسعى، فإننا في صراعٍ مستمرٍّ مع الأيام وفي انشغالاتٍ لا حصرَ أو نهاية لها. فبينما كان الجيل القديم ينعم بالهدوء والراحة والإنتاجية رغم مصاعب الحياة الكثيرة آنذاك وغياب التكنولوجيا، نرى أنّ جيلنا المعاصر يبقى أسيرًا لتطوّر الحياة السريع، فلا ينعَم بالأمان وراحة البال، بل يجري باستمرار سعيًا وراء تأمين حاجاته وحاجات الذين يحبّهم. وبينما كان الجيل القديم يجد الوقت الكافي لقراءة الكلمة الإلهية والاهتمام بالأمور الروحية، نجد جيلنا الحاليّ يصارع الوقت فيقضي معظمه بعيدًا عن الكتاب المقدّس وعِلمه الحقيقيّ، قريبًا من متطلّبات الحياة ومسؤولياتها وباحثًا عن المعرفة السهلة المنال دون دراسةٍ أو تدقيق. فأصبح الجيل الحديث مع الأيام غير آبهٍ بكلمة الله أو مكترثٍ بدراستها واستخدامها في ممارسة الحياة والفضائل المسيحية الكاملة. وبسبب انشغال الأجيال الحديثة بأعمالهم ودراساتهم، فقد أصبحوا يعتقدون رويدًا رويدًا بأنّ الكتاب المقدّس لم يعُد مطابقًا لفكرنا الحديث بل ومن مخلّفات الجيل القديم الذي لا يصلُح في الكثير من جوانبه لحياةٍ مُعاصرة تواكب التطوّر والاكتشاف. ويرى الكثيرون أنّ قِدَم الكتاب إنما يعود لحوالي 3500 سنة، فكيف يمكن أن يكون كتابًا معاصرًا؟ أجد صعوبةً بالغة في فهم هذا العدد، إلاّ أنني موقنٌ بأنّ كلمة الله ثابتة لا تتغيّر، فهي تصلُح لكلّ جيلٍ وزمان. إن استخدام كلمة "الألفية"، أو "Millennium"، في الأصل اليوناني يشير إلى طول الوقت والأيام بل وأيضًا إلى مدى ارتباط قِدَم الأيام بالعصور التي مرّت بها حتى أيامنا هذه. وإذا كان الكتاب المقدّس "ألفيًا"، إذا صحّ التعبير، فكيف يمكن أن يكون مناسبًا لجيلنا الحديث والمعاصر؟ في إحصاءٍ جِدّيٍّ وحديث، أثبتت إحدى الدّراسات بأن غالبية الناس يعتقدون بأنّ الكتاب المقدّس كان كتابًا صالحًا لحقبةٍ ما من الزمان ولمجتمعاتٍ محدّدة، إلاّ أنّه لا يصلُح للمجتمعات الحديثة لأنه لا يستطيع مواكبة التطوّر الاجتماعيّ الناشط في تاريخ الإنسان المعاصر. إن حُجّة هؤلاء هي أنّ اهتمامات الفرد، كما الجماعة في المجتمعات اليوم، تغيّرت وهي المتمثلة في الحفاظ على زواجهم، وبيئتهم، وأصدقائهم، وأعمالهم، وأموالهم، وازدهار ممتلكاتهم، الأمور التي لا يلاحظها أو يُعنى بها الكتاب المقدّس في جوانب الحياة الكثيرة. فاهتمامات الكتاب وتعاليمه من منظور هؤلاء لا تنسجم إطلاقًا مع تطوّر المجتمعات والاهتمامات الواقعية المعاصرة.

ثوابت لا تتغيّر في نوعية وحداثة الكتاب المقدّس ومواكبته العصر الحديث
للوهلة الأولى، تبدو هذه الفرضية المتعلّقة بقِدَم الكتاب المقدّس منطقية بل وعملية أيضًا! لا شكّ أن الحياة تتغيّر – كلُّ شيءٍ تقريبًا نجده يتطوّر خلال الأجيال وهذا ما اختبرناه في عائلاتنا ومجتمعاتنا. إنّ القِيَم الاجتماعية تتبدّل وتتأثّر بعوامل الوقت والمسافة، حتى المجتمعات المتباعدة في عصرنا الحالي كلٌّ لها عاداتها وتقاليدها وأساليبها في ممارسة الحياة. فما كان مقبولاً على سبيل المثال كلباسٍ تقليديّ أو سلوكياتٍ اجتماعية معيّنة في القرون القديمة في أحد المجتمعات، قد يكون أو يصبح محطّ استهجانٍ واستغراب في المجتمع المعاصر. فما بالك إذًا بتغيُّر العادات والتقاليد وتقدُّم العلوم من وقتٍ إلى آخر؟ على أنّ الثابت بمكان أنّ الحقّ ليس رداءً يطويه الزمن أو التطوّر المجتمعيّ. إنه ثابت لا يتغيّر ولا يتأثّر لا بالوقت ولا بالمسافة، وإذا كانت الكلمة الإلهية هي كلمة الحقّ الإلهيّ المعلَن للإنسان، فهي إذًا تصلحُ لجميع الأجيال (2بطرس 19:1).
تخيّل معي شخصًا ما يحاول الانتحار من على حافةٍ تطلُّ على وادٍ سحيق. وإذا بالجماعة تبدأ بالصراخ في محاولةٍ منها لثَنيه عن هذه المحاولة. وإذا به يتوقّف في منتصف الطريق ويلتفت إليهم قائلاً: "لا تهتموا، فأنا لا أومن بالجاذبية"، علمًا بأنّ الجاذبية هي حقيقةٌ علمية لا يمكن أن تُدحض. إنها فكرةٌ جذّابة لكنها لا تنسجم مع الواقع على الإطلاق. وإذا به يقفز غير مبالٍ بالحقّ الجاذبيّ العلميّ الظّاهر، ليلقى حتفه على الفور. فهل نعتقد بأنّ الجاذبية هذه كان لها أيُّ أثرٍ في فكر هذا الرجل المتهوّر أو صحّة معتقداته؟ إنّ معتقداتنا وما نؤمن أو نشعر به عن العوامل الطبيعية في هذا العالم لا تؤثّر على يقينيتها وصوابها، وهكذا أيضًا ما يُفكّر به الناس أو يعتقدون به عن الحقائق المعلَنة في الكتاب المقدّس التي لا تؤثّر على صحّته وديمومته. فإذا كانت القوانين الطبيعية التي وضعها الله في علمه السابق لضمان استمرارية الكون والحياة صحيحة وصالحة على مدى الأيام، فكيف إذًا بالقوانين والنواميس الروحية التي لا تتغيّر أو تتبدّل مهما تبدّلت أفكار الناس أو تغيّرت مجتمعاتهم؟
إنّ ما يُقدّمه الكتاب المقدّس أوسع وأعمق وأبقى بكثير من أيّ فكرٍ فلسفيّ نفسانيّ غير واقعيّ، فهو يُعنى بكيفية التفاعل مع المحيط الخارجيّ وإن تغيّرت ظروفه ومفاهيمه الاجتماعية والثقافية والعلمية والروحية. فكلمة الله تضع الأطر الصالحة في السلوك والتفاعل مع هذا المحيط المتغيّر وفي اتّخاذ القرارات التي تنسجم مع ضمان مصلحة الفرد والجماعة والمجتمع. فنحن نجد في طيّاته دقّة ومواكبة لحاجات المجتمعات النفسية والروحية وكيفية المبادرة في الظروف الاستثنائية وبالتالي اتّخاذ القرارات الفاعلة والهادفة والبنّاءة، معتمدين على صواب هذا الفكر وبُعده اللاّهوتيّ، نرى أنّ الكتاب المقدّس يواكب التطوّر والنمو الاجتماعيّ والعلميّ لأنه يحاكي حاجاته ويؤمّن العلاجات الناجعة لمشاكل العصر الحديث.

يتعامل الكتاب وبشكلٍ أساسيّ مع هذه النواحي العملية في حياة الإنسان المعاصر على النحو التالي:

كيفية التفاعل مع المشاكل الشخصية التي تعترض طريق الفرد والجماعة وأسلوب الممارسة التي تضمن النجاح والاستمرارية هما بدون شكٍّ عاملان مؤثّران في دور الكتاب التوجيهيّ البنّاء اجتماعيًا وعلميًا في آنٍ معًا (متى 23:5-24؛ 15:18-17).

كيفية التعامل مع العلاقات التي يُنشئها الفرد مع الآخرين وأهميتها في خَلق توازنٍ نفسيّ واجتماعيّ ضروريين لإنشاء علاقاتٍ اجتماعية تدوم وتستمرّ (أفسس 22:5-23؛ 1:6-4). من هذا المنطلق، نرى أهمية توفير المناخات التي تساهم في نسج علاقاتٍ ناجحة وضرورة تحديد الأولويات في هذه العلاقات.

كيفية إظهار المشاعر الصادقة تجاه الآخرين وتحديد الرغبة في التواصل الإراديّ الأمين الذي يضمن نجاح الفرد وتطوره الاجتماعيّ والعلميّ أيضًا (أمثال 12:10؛ لوقا 3:17؛ رومية 8:13).
بالإضافة إلى العناصر الأساسية هذه التي يؤمّنها الكتاب المقدّس، ندرك أنّ كلمة الله تتعامل أيضًا مع أسُس تطوّر الشخصية – شخصية الفرد الطموح – في البيئة الحاضنة له (1كورنثوس 4:13-8؛ 2 بطرس 5:1-8)، وفي تجاهل الممارسات التي تهدم هذه الشخصية النامية (أمثال 6:6-19)، وفي تكوين الصداقات الناجعة والنافعة في آنٍ معًا (أمثال 17:27؛ جامعة 9:4-10)، وفي الكثير من جوانب الحياة الحاضرة والمستقبلية. ثِق بأنّ دراسة الكلمة الإلهية هي أسلوب حياةٍ قد يمتدُّ طول الحياة، فلن تستطيع رغم ذلك أن تسبر غور المعرفة والحكمة المدوّنة في طيّاته حتى الرمق الأخير.
قد يكون الكتاب المقدّس قديمًا، لكنّ القِدَم لا يعني إطلاقًا انتهاء مفعوله أو صلاحياته، بالرغم مما يقوله المجتمع المعاصر. فهذا الكتاب يصلُح لكلّ الأجيال ومصير مجتمعاتهم يرتبط بمدى التزامهم بثقافته وبفكره النيّر والحديث. يمكن للمرء أن يختار واحدًا من اثنين: إما أن يسلُك في ضوء الكلمة الإلهية المعلَنة ويحصُد خيراتها وأمجادها في الحياة، أو أن يتجاهلها معتمدًا على فطنته وذكائه وتقدُّمه الفكريّ والاجتماعيّ والعلميّ ويحصد أيضًا النتائج الوخيمة. يقول الكتاب: "أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ ٱلسَّمَاءَ وَٱلْأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ ٱلْحَيَاةَ وَٱلْمَوْتَ. ٱلْبَرَكَةَ وَٱللَّعْنَةَ. فَٱخْتَرِ ٱلْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ." (تثنية 19:30)، فهو إذًا كلمة الحياة وفيه ثقافة الحياة الناجحة – "لِأَنَّ كَلِمَةَ ٱللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ." (عبرانيين 12:4)

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2018