يجتاحُ عالَمُنا اليوم وباءٌ فيروسيّ حاد بدأ ينشرُ الرعبَ بين البشر. الكثيرون من الخبراء ‏والأخصائيِّين أسمَوهُ فيروس، أو جائرة، كورونا المكتشَف أوَّلًا في مقاطعة صينيَّة آواخِر سنة ‏‏٢٠١٩.

تأثَّرت الكثير من الدُّول، ولا تزال، وانتشرت حالات العدوى بين الألوف، والكثيرون ‏تعافوا أحيانًا أو ماتوا قسرًا من جرَّائه، أحيانًا أُخرى. بماذا نُفكِّر في هذه التطوُّرات ‏الدراماتيكيَّة؟ وما هو موقِفنا الكتابيّ؟ وماذا يُعلِن الكتاب المقدَّس النبويّ في شأن الأوبئة في ‏الأيَّام الأخيرة؟ ‏

بدايةً، يجدُرُ بنا إلقاء نظرة موضوعيَّة على الفيروسات، تلك الجراثيم الحيَّة المسبِّبة ‏للكثير من الأمراض التي فتكت بالبشريَّة عبرَ تاريخها الطويل. ما أودُّ أن أُشارككم به، وإن ‏كان علميًّا، قد لا ينسجِم مع الفكر المنتشِر حول الفيروسات في أيَّامنا الحديثة. هل يدعم ‏وجود الفيروسات نظريَّة النُّشوء والتطوُّر الدَّاروينيَّة؟ هل يُمكننا تفسير وقائع تأثيراتها من ‏ضمن عمل الخَلق الإلهيّ؟ هل نستطيع أيضًا أن نعتبرها جزءًا من الخليقة السَّاقطة؟ تمسَّك ‏قارئي الكريم بما تعتقده أنتَ ودعني أسردُ بعض الوقائع التي يمكنها قلبَ الكثير من المفاهيم ‏الخاطئة والمنتشرة بكثرة حولنا.‏

علميًّا، مُعظم الفيروسات ليست ضارَّة، تمامًا كالكثير من الميكروبات الجيِّدة المتواجدة ‏حولنا وفي دواخلِ أجسامنا. وللإنصاف الموضوعيّ، لا بدَّ من الإشارة إلى هذه الحقيقة: إنَّ ‏عدد الفيروسات في الجهاز المعويّ للإنسان يفوق بأشواطٍ كثيرة أعداد البكتيريا الجيِّدة، ‏وتُسمَّى هذه الفيروسات بـ ‘الفيروم’، أو ‘‏Virome‏’. وتُسيطِر هذه الفيروسات الجيِّدة على ‏أداء البكتيريا المعويَّة فتمنعها من التَّسبُّب بالتَّــآكُل والمرض. ولكن، كيف نُفسِّر هذا الكمِّ ‏الهائل من الأمراض التي تتسبَّبُ بها الفيروسات؟ سننظر إلى هذه المعضِلة من منطلقٍ ‏كتابيّ.‏

بما أنَّ الفيروسات كما البكتريا والخلايا العضويَّة الأُخرى تحتوي على مادَّة الجينوم ‏الكيميائيّ، فهي تتحوَّل وتتعدَّل جيناتها لأسبابٍ قد نجهلُها أحيانًا كثيرة. هذا التَّحوُّل الذي قد ‏يكون بسيطًا هو أحد الأسباب الرئيسة المؤدِّية إلى التَّسبُّب بالأمراض. هناك سببٌ آخر لهذا ‏التَّحوُّل المؤذي وهو الهندسة الجينيَّة، أو ‏Genetic Engineering‏. خُلِقت الفيروسات كما ‏الخلايا والكائنات المتعدِّدة في أُصولِها لغرَضٍ بيئيّ وبيولوجيّ مُحدَّد. فالتَّلاعُب المخبريّ ‏بجينوم هذه الكائنات قد يُحوِّلها عن الغرَض المخلوقة من أجلِه. وهنا تكمُن المخاطر في ‏الهندسة الجينيَّة غير المنضبطة. فإذا اختلَّ نظام الجينات الدَّقيقة هذا، تتحوَّل الخلايا إلى ‏معامِل تُنتِج البروتينات بشكلٍ عشوائيّ، وبما أنَّ البروتينات هي التي تُحدِّد وظائف الخلايا ‏وتُنظِّمها، فأيُّ اختلالٍ في الجينوم يُحتِّمُ اختلال الوظائف الخلويَّة. فتتحوَّل الخلايا وتنقسِم ‏بشكلٍ استثنائيّ يؤدِّي إلى الاعتلال والمرَض. وهكذا تتحوَّل الفيروسات إلى مناجم تُنتِجُ سُمًّا ‏قاتلًا! لم يكُن هذا حتمًا ضمن طبيعة الخلقِ الأصليّ، بل ما أدَّى إليهِ هو التَّلاعُب الجينيّ ‏الذي يؤدِّي إلى الخلَل الوظيفيّ للخلايا.‏

بالعودة إلى عصرنا الحاليّ وفيروس كورونا الفتَّاك تحديدًا، نلحَظ الاكتشاف العلميّ الذي ‏يقول بأنَّ هذا النوع من الفيروسات لا يتواجَد في البشَر. فكيف إذًا يُمكنه الانتقال إليهم؟ هذا ‏النوع ينتمي إلى الفصيل الذي ينتقِل بالعدوى من جنسٍ إلى آخر ‏Jump Species، أو ‏Zoonotic‏. ومن تعريف هذا الاسم نتأكَّد بأنَّ فيروس كورونا، كما فيروسات الإنفلونزا ‏Influenza‏ والسيدا ‏HIV/AIDS‏ والالتهاب الرئويّ الحاد ‏SARS/MERS، ينتقِل من الحيوان ‏إلى الإنسان مُسبِّبًا المرَض. هذا الظهور الكثيف لفيروسٍ مُتحوِّل (جينيًّا) يُعتبَر مصدرًا ‏حقيقيًّا للقلَق. فمُعظَم الأوبئة التي فتكت بالبشريَّة عبرَ التَّاريخ كان سببها كائناتٍ مُتحوِّلة. ‏نأخذ مثالًا على ذلك الوباء الأسود (أو الطَّاعون الأسود) الذي ضرب أوروبَّا تحديدًا في القرن ‏الرَّابع عشر للميلاد (١٣٤۷-١٣٥١) وكان سببهُ جرثومة خبيثة سبَّبت وباءً عظيمًا. ‏

كانت الخليقة الأصليَّة خالية من الأمراض. إلّا أنَّ الأمراض تكاثرت وانتشرت على مدى ‏ستَّةِ آلافِ سنة حاصدةً أرواح الملايين من البشَر. إذًا، كانت الأوبئة جزءًا لا يتجزَّأ من ‏تاريخ الإنسان، ولكن لماذا الهلَعُ الآن من فيروسٍ مُستجِدّ؟ لا أعتقد أنَّ فيروس كورونا مصدرًا ‏رئيسًا للقلَق والخوف بمقدار ما هو سببًا يدعونا كبشَر لِفهم موقعنا في خليقة الله المتنوِّعة ‏التي تأثَّرت بالسُّقوط. ‏

لقد كوَّنَ الإنسان عبرَ تاريخه الطَّويل شبكةً من الأمان تحميه من الأمراض، ولكن كثيرًا ‏ما اختُرِقت فسبَّبت الخوف في داخلهِ والمرَض في جسمهِ. من هذه الأنظمة الحامية للإنسان، ‏نذكر التالي:‏

الجهاز المناعيّ – لقد خلقَ الله الإنسان الأوَّل وفي جسمه حهاز حساس يحميه من ‏الدَّمار الشَّامل الذي قد تُسبِّبه الجراثيم الفتَّاكة.‏

ممارسات حيويَّة – ونعني بها أُصول الممارسات الصحّيَّة التي تُحافظ على المبادئ ‏العامَّة لنظافة الإنسان.‏

اللُّقاحات المتنوِّعة – ونعني بها تلك التي تُساهم في الحدِّ من الأمراض عبر تقوية جهاز ‏المناعة الذي يفتُك بدورهِ بالجراثيم السَّامَّة فيمنعها من التَّسبُّب بالأمراض.‏

إنَّ فيروس كورونا، كما كلِّ الخلائق الأُخرى، هو في عِلم الله وقصده وقد يكون أو لا ‏يكون بتاتًا أحد العلامات النبويَّة المذكورة في سفر الرؤيا، إنَّما هو بالتَّأكيد رسالةٌ واضحة من ‏الله على هول الدَّينونة والمصاب اللَّذَين سيفتُكان بالبشر إن لم يعودوا إلى عبادته. وفي زمنٍ ‏قصير نسبيًّا استطاع العُلماء اكتشاف جينوم هذا الفيروس الخبيث الأمر الذي قد يُساهِم في ‏تطوير المضادَّات واللُّقاحات. ما هو مستقبلُ هذا الوباء كما صنَّفته منظَّمة الصحَّة العالميَّة ‏WHO؟ إذا كان هذا الوباء الفيروسيِ كأمثالهِ، فوباء كورونا سيخبو مع الوقت، لكنَّنا لا نُدرك ‏تمامًا مقدار تحوُّلهِ الجينيّ الأمر الذي يطرح علامات استفهامٍ عدَّة حول إمكانيَّة السَّيطرة ‏عليه بواسطة اللُّقاحات. فكوباء الإنفلونزا ‏H1N1 Influenza‏ الذي ضرب العالَم سنة ١٩١۷ ‏قاتلًا الملايين، واستمرَّ زهاءَ أربعين عامًا، لكنَّه اختفى من الخارطة العالميَّة قبل بروزه مؤخَّرًا ‏سنة ٢٠٠٣، نستطيع القول بأنَّه قد يختفي تدريجًا. ولكن، بما أنَّ مرَض كورونا ‏COVID-‎‎19‎‏ ليس رشَحًا عاديًّا ولا يُشبههُ أبدًا، بل يودي بالمريض بسبب نقص الأوكسجين النَّاتج عن ‏ضرب الخلايا التَّنفسيَّة والكرويَّات الحمراء، فلسنا مُتأكِّدين بعد من دورته الحياتيَّة وكيفيَّة ‏احتوائها. لذلك نحرَص على تأكيد الوقاية واستخدام كلِّ الوسائل المتاحة لاحتوائهِ والتَّعامُل ‏معه. ‏

وضِمن منظومةٍ من الخليقة السَّاقطة الملعونة إلهيًّا، لا نشكُّ لحظةً في إمكانيَّة بروز ‏الأوبئة والأمراض ومن بينها كورونا المستجدِّ. ولكن عند ظهور وباءٍ مُماثل، يجدُر بنا تحديد ‏المخاطر وأخذ الاحتياطات الضَّروريَّة لاحتوائه وللحماية منه. كما يجدرُ بنا كمسيحيِّين أن ‏نُهرعَ لمساعدة مَن يحتاجون إلى المساعدة في زمن الكورونا الرديء هذا. ونستخدِم هذا ‏المصاب لدعوة الناس إلى الرجوع إلى عبادة الله بتوبةٍ وخشوع في شخص مَن أحبَّنا ربَّنا ‏يسوع المسيح. قد يترك فيروس الكورونا بصماتٍ دامية، لكنَّنا نركُن إلى ذلك الذي أحبَّنا ‏وجُرِح من أجلنا كي يشفينا من براثن الخطيَّة والموت والوباء الرُّوحيّ.‏

وفي الخُلاصة، نُشير حتمًا إلى أنَّ الفيروسات هي في صُلبِ خليقة الله، وقد َوجِدت ‏لغرضٍ ما هو لخيرِ الإنسان أوَّلًا. لكنَّنا نعيش ومن دون شكٍّ في عالَم ساقطٍ معنويًّا وأخلاقيًّا ‏ومادِّيًا يُعاني من الألَم والمرَض والموت. وبعض هذه الجراثيم الجيِّدة تتحوَّل من جرَّاءَ ذلك ‏إلى آلاتٍ فتَّاكة اجتاحَت البشريَّة وأصابتها بالأوبئة المميتة. تعاملَ الإنسانُ بفطنةٍ وحكمة ‏مع هذه المتغيِّرات فطوَّر الأنظمة التي كانت كفيلة إلى حدٍّ بعيد بحمايته بالرغم من ‏محدوديَّتها وعدم كمالِها. لم يعِدِ الله بحياةٍ خالية من الأمراض لكنَّه أعطى الإنسان عقلًا نيِّرًا ‏لمواجهتها والوقاية منها. أمَّا الوعد الإلهيّ الرَّاسخ فهو في تأكيده خلاص الإنسان الرَّازح تحت ‏أثقال الخطيَّة والموت، إذ نرى الكلمة الإلهيَّة تؤكِّد وعدَهُ بالقول: «... وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ ‏لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ.» (يوحنَّا ١٠:١٠) لذلك ندعو البشريَّة كي تنظرَ إليه من خلال ‏هذا الوباء الفتَّاك لأنَّ رجاءَ الأُمَم يقترِب إليها (مزمور٩١)، وكلَّما اقتربَ رجاؤها، اضمحلَّ ‏خوفها ودنت ساعة نجاتها الحتميَّة من دينوناتٍ لن ينجو منها أحدٌ في الخليقة بعيدًا عن ‏جناحيّ الله القدير.‏

المجموعة: أيار (مايو) 2020