كتب روحية

الإيمان المسيحي: هل هو معقول؟ للأخ ناشد حنا

مقدمة

مما حفّزني إلى كتابة هذا الكتيب ما أبداه لي بعض زملاء أحفادي في الجامعة من الحاجة الماسة إلى توضيح مبسّط للإيمان المسيحي لتثبيت طلاب الجامعة المسيحيين في إيمانهم. ولطمأنة زملائهم الأعزاء من غير المسيحيين على أن المسيحيين لا يعتنقون الكفر أو الشرك بالله كما يبدو لأول وهلة للناظر السطحي. ولقد أعجبني ما رووه لي من أن زميلاً عزيزًا لهم قام فيهم مؤخرًا في أحد مدرجات الدراسة مناديًا: أيها الزملاء المسيحيون راجعوا أنفسكم في ما تعتقدون. أجل. لقد أُعجبت بهذا الشاب العزيز لإخلاصه لله، ومحبته لزملائه وخوفه عليهم من أن يضيعوا ويهلكوا بسبب معتقدات قديمة يظن هو أنهم توارثوها وتلقنوها دون أن يبحثوها ويمعنوا النظر فيها كشباب مثقف. لأنه لولا ذلك ماذا كان يضير ذلك الشاب لو أن زملاءه يعتنقون الكفر ويمضون إلى الهلاك الأبدي؟

 

ولا أقصد بهذا الكتيب الصغير أن أتناول كل حقائق الإيمان المسيحي لأن هذا الموضوع أكبر بكثير من أن تسعه صفحات قليلة كهذه. ولكني أقصد أن أضع في أيدي من يريدون المعرفة ومن يرغبون في التثبت في الإيمان، دون أن يكون لديهم الوقت الكافي للبحث المستفيض، أضع في أيديهم خيوط الحق الإلهي ليرجعوا بعد ذلك إلى الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله الحية الفعالة.

أما من جهة معقولية هذا الإيمان فقد لجأت فيه إلى ما انتهى إليه العلماء والفلاسفة والمفكرون بعد بحوثهم العميقة من آراء معقولة نقلْتُها بالنص بأمانة ولا أقصد طبعًا أننا نبني إيماننا المسيحي على الأبحاث العلمية المعقولة، حاشا. فإن المصدر الوحيد لإيماننا هو إعلان الله عن ذاته في الكتاب المقدس الذي أعطاه لنا موحى به منه لكي نعرفه ونحبه ونعبده، وتكون لنا به صلة وثيقة من الآن وإلى الأبد، لأنه هكذا شاء في محبته ونعمته إذ أن البشر أسمى مخلوقاته، وقد أودع فيهم نسمة من عنده، خالدة لا تفنى بل تبقى إلى الأبد.

وقد أفردت في هذا الكتيب فصلاً خاصًا لإثبات وحي الكتاب المقدس وعدم وصول أي تحريف إليه.

أما ما وصل إليه الفلاسفة من جميع الأديان مما أثبتنا بعضه في هذا الكتيب فنحمد الله على الصحيح منه لأنه يطابق الإعلان الإلهي إلى حد ما، كما نحمد الله على غير الصحيح مما أثبت عجز العقل البشري المحدود عن الوصول - بدون الإعلان الإلهي - إلى حقيقة الله عزّ وجل، ولكن حمدًا لله لأن ما لم يستطع الحكماء والعلماء أن يدركوه أعلنه الله للبسطاء المخلصين كما قال المسيح له المجد: "أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأرض لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ" (متى 25:11).

وإني إذ أضع هذا الكتيب في أيدي القراء الأعزاء أرفع معه صلوات حارة لله لكي يستخدمه لبركة كل نفس وراحة قلب كل متسائل. أما من يريد أن يعارض أو يجادل فليس لنا شأن معه، ولكننا نتركه في يدي خالقه الرحيم الذي يستطيع وحده أن يصل إلى الضمائر والقلوب.

ناشد حنا - إبريل 1978

 


الفصل الأول

 

الله ا لواحد ثلاثة أقانيم

قبل أن أدخل بكل خشوع وإجلال إلى الكلام عن حقيقة الله عزّ وجلّ أرى لزامًا عليّ أن أمهد لذلك بتأملات مختصرة عن وجود الله.

وجود الله

لا يمكن إلا أن يكون الله موجودًا. هو واجب الوجود. وإلا فمن خلق هذا العالم بنواميسه الدقيقة؟ ومن خلقني أنا؟ ولمن أنا مدين بوجودي وكياني؟ إن الدليل على وجود الله موجود في كيان الإنسان الكافر الذي يرفع عقيرته منكرًا وجوده، إذ في داخله الضمير الذي هو صوت الله، وصوت الأبدية أيضًا في قلبه كما هو مكتوب "صَنَعَ (الله) الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ وَأيضًا جَعَلَ الأبديةَ فِي قَلْبِهِمِ" (جامعة 3: 11). وفي داخل الإنسان روح عاقلة ليست موجودة في الحيوانات، مصدرها الله ذاته كما هو مكتوب "وَلَكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحًا وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ" (أيوب 32: 8). وبسبب نسمة القدير في الإنسان لا يشبعه العالم المادي كله، ولا يمكن أن يستريح قلبه أو يشبع إلا بالله. والغريزة الدينية قد وضعها الله في الإنسان دون سائر المخلوقات غريزة الرغبة في التعبد وغريزة الشعور بالضعف، وبالحاجة إلى الاعتماد على قوة أعلى منه، خصوصًا أمام الأهوال، وأمام المجهول، وأمام الموت حيث يحسّ الإنسان بحقارته، فإذا تعرّض للغرق أو للحريق مثلاً، يصرخ لاشعوريًا "الله" مستنجدًا بمن هو أعلى وأقوى منه.

الفخاري يصنع الإناء الجميل الذي يتحدث عن دقة وبراعة صانعه، ولكن لا علاقة بين الإناء وبين صانعه. لكن الله صنعنا وهو دائم الاتصال بنا "إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ الأرض وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أعمال 25:17- 28).

ومن محبته للبشر أعلن ذاته لهم في كتابه، وكلّمهم "بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ" (عبرانيين 1:1).

لا يوجد إنسان عاقل ينكر وجود الله، ولكن "قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلَهٌ" (مزمور 10:14). أي أنه يحاول أن يغالط نفسه ويُسكت صوت عقله. ويوجد سبب لهذا، يذكره الكتاب المقدس بعد هذه العبارة: "فسدوا ورجسوا بأفعالهم". فالعلة ليست في عقله لكن في قلبه الذي يحب الفساد والرجس وصوت الضمير في داخله يقول أن الله ديان لهذا الفساد. وكما تخفي النعامة رأسها في الرمال لكي تبعد عن عينيها منظر الصياد، هكذا الجاهل يرى أن خير مهرب من الدينونة هو أن يقنع نفسه أنه "ليس إله".

ويشهد الكتاب المقدس أن الوثنيين لم يجهلوا وجود الله "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أمورهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإنسان الَّذِي يَفْنَى وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ. لِذَلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أيضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إلى النَّجَاسَة" (رومية 19:1-24). فهم عرفوا الله ولكنهم لم يمجّدوه، والسبب في ذلك هو شهوات قلوبهم ونجاستهم. وقد قال أيوب عن مثل هؤلاء: "فَيَقُولُونَ لِلَّهِ: ابْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرّ" (أيوب 14:21). فهم لا ينكرونه ولكن يبعدونه عن أنفسهم. أو يريدون أن يقطعوا قيوده ويطرحوا عنهم ربطه (مزمور 3:2).

فالعقل السليم يستطيع أن يعرف وجود الله ولكنه يعجز عن معرفة ذاته وحقيقة كيانه وجوهره لأن العقل محدود، والله عظيم وغير محدود كما جاء في سفر أيوب: "أَإلى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ أَمْ إلى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ فَمَاذَا تَدْرِي؟" (أيوب 7:11-8). وأيضًا "عِنْدَ اللهِ جَلاَلٌ مُرْهِبٌ. الْقَدِيرُ لاَ نُدْرِكُهُ" (أيوب 22:37-23). من هنا لزم الإعلان الإلهي. لأنه لو لم يعلن الله ذاته لنا ما كنا لنعرفه.

وقد سُئل أحد علماء الصوفية: "ما الدليل على الله؟" فقال: "الله". ولما سُئل: "فما العقل؟" قال: "العقل عاجز. والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله". وقال ابن عطا: "العقل آلة للعبودية (أي للتعبّد) وليس للإشراف على الربوبية". وهذا صحيح تمامًا، لأننا نعبد الله بالروح وبالعقل "عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ" (رومية 1:12). ولكننا نعرفه بموجب الإعلان الإلهي، ونؤمن به بالقلب: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ" (رومية 9:10). أما العقل فينحني خاشعًا للإعلان الإلهي ولا يستطيع أن يعترض عليه لأنه ليس ضد العقل بل هو أكبر منه ويسمو فوقه.

ولنأخذ مثلاً بسيطًا على عجز العقل المحدود عن إدراك الله غير المحدود. هل يستطيع العقل أن يدرك "الأزل"؟ ليرجع العقل إلى ملايين الملايين من السنين، هل يكون قد وصل إلى شيء من أبعاد الأزل؟ كلا. لأن الأزل لا أبعاد له. وإذا ذهب الخيال إلى ملايين من السنين قبل التي وصل إليها أولاً، هل يكون قد وصل إلى شيء؟ كلا... وهكذا "الأبد". وما أصدق ما قاله أليهو: "هُوَذَا اللهُ عَظِيمٌ وَلاَ نَعْرِفُهُ، وَعَدَدُ سِنِيهِ لاَ يُفْحَصُ"(أيوب 36: 26). لقد أعطانا الله العقل لنفهم به خليقة الله ولنعبد به الخالق بخشوع، ولكن إذا تطاولت عقولنا محاولة لفحص الذات الإلهية فإننا نخسرها ونخسر أنفسنا.

إن الله هو خالقنا العظيم الذي أعطانا هذا الكيان الثلاثي العجيب المركب من الروح والنفس والجسد؛ هذا الكيان الذي لم نستطع للآن أن نحيط بكل أسراره ودقائقه. فمنذ القديم قد تفرّغ بعض العلماء لدراسة الطب ووظائف أجهزة الجسم، وتفرّغ آخرون لدراسة علم النفس، وآخرون لدراسة الروحيات وسرّ الحياة وما بعد المـوت، وللآن كل هذه الدراسات مستمرة ومتجدّدة، وتكتشف الجديد دائمًا ولكنها تعترف كلها أنها لم تصل.

والله هو أيضًا خالق السماوات والأرض وكل ما فيها، وواضع قوانينها وأسرارها وحافظ كيانها بكلمة قدرته. ومنذ القديم يوجد علماء تفرّغوا لدراسة علم الفلك والكواكب والفضاء، وآخرون لدراسة الجيولوجيا، وآخرون للطبيعة والكيمياء، وآخرون للهندسة والرياضيات، وآخرون للنبات والحيوان، وغير هذه من العلوم بشتى فروعها. ومنهم من كرس حياته كلها لدراسة علم الحشرات، وعلم الطفيليات، والمخلوقات الدقيقة التي لا تُرى إلا بالمجهر الإلكتروني، وجميعهم مع ما يصلون إليه من جديد يعترفون بأنهم لا يزالون على هامش المعرفة وعلى شاطئ محيط العلم[1].

فكم هو عظيم ذلك الخالق غير المحدود الذي يملأ السماوات والأرض ولا تسعه سماء السماوات، الأزلي الذي لا بداءة له والأبدي الذي لا نهاية له، غير المحدود في قدرته وسلطانه وفي علمه وحكمته، وفي كل شيء. أجل هو أعظم من أن يحيط به عقل الإنسان المخلوق المحدود.

ولقد أوجد الله في البشر غريزة دينية فأخذوا يتلمّسون الله لعلهم يجدونه، لكنهم لم يجدوه لأن الشيطان أعمى أذهانَهم، والخطية أظلمت قلوبَهم.

وهكذا جميع البشر بما فيهم الفلاسفة صنعوا لأنفسهم آله بحسب تصوّر عقولهم، أوثانًا أودعوا فيها صورة ما يظنون وما يتمنون أن يكون إلههم (أنظر رومية الأصحاح الأول). ويبين الوحي الإلهي جهلهم بقوله عن الذي يصنع الوثن "نَجَّرَ خَشَبًا. مَدَّ الْخَيْطَ... يَصْنَعُهُ بِالأَزَامِيلِ، وَبِالدَّوَّارَةِ يَرْسِمُهُ. فَيَصْنَعُهُ كَشَبَهِ رَجُلٍ، كَجَمَالِ إنسانٍ، لِيَسْكُنَ فِي الْبَيْتِ... غَرَسَ سَنُوبَرًا وَالْمَطَرُ يُنْمِيهِ... وَيَأْخُذُ مِنْهُ وَيَتَدَفَّأُ. يُشْعِلُ أيضًا وَيَخْبِزُ خُبْزًا، ثُمَّ يَصْنَعُ إِلَهًا فَيَسْجُدُ! قَدْ صَنَعَهُ صَنَمًا وَخَرَّ لَهُ. نِصْفُهُ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ. عَلَى نِصْفِهِ يَأْكُلُ لَحْمًا. يَشْوِي مَشْوِيًّا وَيَشْبَعُ! يَتَدَفَّأُ أيضًا وَيَقُولُ: بَخْ! قَدْ تَدَفَّأْتُ... وَبَقِيَّتُهُ قَدْ صَنَعَهَا إِلَهًا صَنَمًا لِنَفْسِهِ! يَخُرُّ لَهُ وَيَسْجُدُ وَيُصَلِّي إِلَيْهِ وَيَقُولُ: نَجِّنِي لأَنَّكَ أَنْتَ إلهي" (إشعياء 13:44-17).

أما الفلاسفة الذين لم يصنعوا لأنفسهم أوثانًا ليسجدوا لها إشباعًا لغريزتهم الدينية، فتساموا عن الأصنام المادية ورسموا في خيالهم كائنًا روحيًا عظيمًا جدًا يجلس على عرش كبير، ونسبوا إليه الوحدانية المطلقة. وهذه الوحدانية تتطلب أنه لا يتميز بمميزات، وليس بينه وبين ذاته نسب أو علاقات، وليس له ماهية أو كيان أو صفة من الصفات. ورغبة في تعظيمه بحسب فكرهم، والمحافظة على وحدانيته، نزّهوه عن كل شيء في الوجود حتى عن العلم والبصر والسمع. ولكن إلها مثل هذا يكون وهمًا لا حقيقة ويكون هو والعدم سواء، وذلك كالنقطة الهندسية الفرضية التي لا وجود لها. وإله خيالي مثل هذا لا يتصل بمخلوقاته ولا يراهم أو يسمعهم، هو والوثن سواء.

ولكن شكرًا لله لأنه يوجد فلاسفة آخرون كثيرون رأوا أن تنزيه الله عن كل شيء حتى عن أن يعقل ذاته، لا يعظّم الله بل بالعكس يجرّده من الكمال اللائق به، ولذلك وصلوا إلى أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة، وإن كانوا قد تحيروا في إدراكها، كما سنرى عند اقتباس أقوالهم. وهذه الحيرة طبيعية، لأن الله فوق العقل المحدود كما أسلفنا القول. ولكننا إذا رمنا الحقيقة التي تستريح إليها نفوسنا وتطمئن بها قلوبنا، فلا يمكن أن نستمدها إلا من الله نفسه إذا كان قد شاء أن يعلن ذاته لنا، لأننا نحن لا نستطيع أن نصل إليه، أما هو فيستطيع أن يصل إلينا إذا شاء. وتبارك اسمه وتعالى لأنه شاء أن يعلن لنا ذاته وصفاته في الكتاب المقدس الذي أوحى به إلينا (أنظر الفصل الخامس).

 


وحدانية الله

 

يخبرنا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد أن الله واحد، لا إله إلا هو. ومجرد ذكر اسم "الله" بـ (ال التعريف) دليل على وحدانيته. وإليك بعض الشواهد من الكتاب المقدس:

من العهد القديم: "فَاعْلمِ اليَوْمَ وَرَدِّدْ فِي قَلبِكَ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الإِلهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلى الأرض مِنْ أَسْفَلُ. ليْسَ سِوَاهُ" (تثنية 39:4). "اسمعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" (تثنية 4:6). "أَنَا الرَّبُّ صَانِعٌ كلَّ شَيْءٍ نَاشِرٌ السَّمَاوَاتِ وَحْدِي. بَاسِطٌ الأرض. مَنْ مَعِي؟" (إشعياء 24:44). "أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سوَايَ" (إشعياء 21:45). "أَلَيْسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟" (ملاخي 10:2).

ومن العهد الجديد: "بِالْحَقِّ قُلْتَ لأَنَّهُ اللَّهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ" (مرقس 32:12). "وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟" (يوحنا 44:5). "لأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ" (رومية 30:3). "وَأَنْ لَيْسَ إِلَهٌ آخَرُ إِلاَّ وَاحِدًا" (1كورنثوس 4:8). "وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ" (غلاطية 20:3). "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ" (1تيموثاوس 5:2). "أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ" (يعقوب 19:2).

نوع وحدانية الله

قبل أن أبين بالأدلة العقلية والنقلية والمنطقية النوع الوحيد للوحدانية التي تليق بالله جل جلاله، وأؤيد ذلك بشهادة الفلاسفة الذين يؤمنون بالتوحيد - قبل ذلك أرجع إلى الكتاب المقدس الذي اقتبسنا منه بعض الآيات الدالة على وحدانية الله حيث نجد فيه صيغة الجمع[2] في اسم الله عز وجل - تلك الصيغة التي وردت في العهد القديم نحو ثلاثة آلاف مرة فضلاً عن العبارات الكثيرة الواضحة التي نجد فيها لا ما يفيد الجمع فقط بل الثالوث بالتحديد. وإليك بعض الشواهد الكتابية من العهد القديم:

أول آية في الكتاب المقدس هي: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ (بالعبرية هي إيلوهيم بصيغة الجمع) السَّمَاوَاتِ وَالأرض".

وفي عدد 26 من نفس الأصحاح يقول الله: "نَعْمَلُ الإنسان عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا". وفي عدد 22 من الإصحاح الثالث يقول الله: "هُوَذَا الإنسان قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا". وقوله تعالى "كواحِدٍ منَّا" يدل على وجود أقانيم في اللاهوت. وفي العدد السابع من الأصحاح الحادي عشر يقول الله: "هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ".

وفي مزمور 6:45-7 نقرأ: "كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الاِبْتِهَاجِ". وهنا نرى الآب والابن. وفي (المزمور الثاني) نجد الله الآب الماسح، والله الابن الممسوح، والروح القدس المسحة "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ الْقُدُّوسِ" (1يوحنا 20:2)، فنقرأ قول الآب عن الابن: "أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي" (مزمور 6:2). وقول الابن عن الآب: "قال لي: أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (ع7). وقول الروح القدس عن الابن: "اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الاِبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ" (ع 11-12).

وفي مزمور 110 نقرأ: "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي"، وهنا نرى الآب والابن. وفي (إشعياء 8:6) نقرأ: "مَنْ أُرْسِلُ (بالمفرد) وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا (بالجمع)؟".

وفي إشعياء 12:48 و16 نقرأ: "أَنَا الأول وَأَنَا الآخِرُ (الابن)... مُنْذُ وُجُودِهِ (الآب) أَنَا (الابن) هُنَاكَ. وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ (الآب) أَرْسَلَنِي (الابن) وَرُوحُهُ (الروح القدس)"، وهنا نرى ثالوثًا في اللاهوت.

ثم إليك هذه الشواهد من العهد الجديد: نقرأ في متى 16:3-17 أن الرب يسوع له المجد عندما اعتمد من يوحنا في نهر الأردن انفتحت له السموات وأتى عليه الروح القدس "نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»"، وهنا أيضًا نرى الأقانيم الثلاثة.

ونقرأ في (متى 19:28) قول الرب يسوع لتلاميذه: "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسم الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ". فنجد هنا أقانيم اللاهوت الثلاثة ونلاحظ أن الرب يسوع يقول: "باسم" لا بـ "أسماء" لأن الثلاثة هم واحد، الله الواحد.

ونقرأ في (إنجيل يوحنا 16:14-17 و26) "وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إلى الأَبَدِ رُوحُ الْحَقِّ... وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسمي". وهنا نجد الأقانيم الثلاثة.

ونقرأ في (2كورنثوس 14:13) "نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ". وهنا نجد الأقانيم الثلاثة.

ونقرأ في (غلاطية 6:4) "بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إلى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: يَا أَبَا الآبُ". وهنا نرى الأقانيم الثلاثة. وكذلك في (أفسس 18:2) حيث نقرأ: "لأَنَّ بِهِ (بالمسيح) لَنَا كِلَيْنَا (اليهودي والأممي) قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إلى الآبِ". وكذلك نقرأ في (رسالة يهوذا 20-21) "مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فِي مَحَبَّةِ اللهِ (الآب)، مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ".

ولأن الله بثالوث أقانيمه هو إله واحد، لذلك عندما يذكر الكتاب المقدس أقنومين أو أكثر لا يأتي بالفعل بصيغة المثنى أو الجمع بل بصيغة المفرد. مثال ذلك قوله: "وَاللهُ نَفْسُهُ أَبُونَا وَرَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ يَهْدِي (بالمفرد) طَرِيقَنَا"(1تسالونيكي 11:3). وأيضًا "وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَاللهُ أَبُونَا... يُعَزِّي (بالمفرد) قُلُوبَكُمْ" (2تسالونيكي 16:2-17). ونلاحظ في هذه الآية تقدم ذكر الابن عن الآب لأن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت. ومن الخطأ أن نقول: الأقنوم الأول، والثاني، والثالث. ونقرأ أيضًا: "قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا (الآب) وَمَسِيحِهِ (الابن)، فَسَيَمْلِكُ (بالمفرد) إلى أَبَدِ الأبدينَ" (رؤيا 15:11). وأيضًا: "سَيَكُونُونَ كَهَنَةً لِلَّهِ وَالْمَسِيحِ، وَسَيَمْلِكُونَ مَعَهُ (بالمفرد) أَلْفَ سَنَةٍ ألف سنة (رؤيا 6:20). وأيضًا "وَعَرْشُ اللهِ وَالْخَرُوف (المسيح الفادي) يَكُونُ (عرش واحد) فِيهَا، وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ (بالمفرد)" (رؤيا 22: 3).

 

الثالوث الأقدس

مما تقدّم، نرى أن الله أعلن ذاته في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، إلهًا واحدًا لا نظير له ولا شريك في ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله، لا ثلاثة آلهة بل إله واحد، ذات واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد. ولكن ثلاثة أقانيم متحدون بغير امتزاج ومتميزون بغير انفصال. وكل أقنوم أزلي، أبدي، غير محدود، لا يتحيز بمكان أو زمان، كلي العلم، كلي القدرة، كلي السلطان، لأن الأقانيم ذات واحدة.

وكلمة "أقانيم" كلمة سريانية، وهي الوحيدة في كل لغات العالم التي تستطيع أن تعطي هذا المعنى، أي تميّز مع عدم الانفصال أو الاستقلال. لأنه بما أن الله لا شبيه له بين كل الكائنات، وبما أن لغات البشر إنما تصف الكائنات المحدودة، فلا توجد فيها كلمة تعطينا وصفًا للذات الإلهية بحسب الإعلان الإلهي. وبهذه المناسبة أقول أنه لا يجوز بالمرة تشبيه الله الواحد من جهة أقانيمه الثلاثة بتشبيهات من الكائنات كالشمس وغيرها لأن كل الكائنات محدودة ومركّبة، والله غير محدود ولا تركيب فيه. وقد استعملت بعض اللغات كالإنجليزية كلمة "شخص" للتعبير عن الأقنوم، ولكن كل شخص كائن مركّب والله لا تركيب فيه، والأشخاص المتميزون منفصلون، ومهما تماثلوا لا يمكن أن يتعادلوا تمامًا أو يتّحدوا. أما كلمة أقانيم فتعني شخصيات متميزة، ولكن متحدة (بغير امتزاج) وهم ذات واحدة. وربما تكون أقرب كلمة عربية لمدلول الأقانيم هي كلمة "تعينات".

 

هل هذا معقول؟

تبدو هذه الحقيقة معقدة فعلاً وصعبة الاستيعاب، ولكن أليس هذا دليلاً واضحًا على صحتها وعلى أن الله نفسه هو الذي أعلن ذاته بها؟ لأن الإنسان إذا أراد أن يزيّف إيمانًا أو يصنعه فإنما يصنعه وفق الفطرة البشرية وفي مستوى العقل ليسهّل قبوله واستيعابه. أما إذا كان الأمر خاصًا بحقيقة الله غير المحدود فلا بد أن يكون الإعلان كبيرًا فوق الفهم الطبيعي، وأسمى من العقل ولكن لا يتعارض معه، ليكون المجال لقبول الإعلان الإلهي، للإيمان ولنور الله في القلب كما يقول الكتاب المقدس أن "الإنسان الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ (أي في ما لروح الله) رُوحِيًّا".

(1كورنثوس 14:2)

فالإيمان بإعلان الله عن ذاته ثالوثًا، وإن كان يبدو صعبًا، ولكنه معقول، بل هو المعقول لأننا سبق أن رأينا أن الوحدانية المطلقة لا تليق بالله لأنها تقتضي تنزيهه عن الصفات والعلاقات. ولكن بما أن الله ذات فهو يتصف بصفات وله علاقات. ولكن بما أنه وحده الأزلي فلم يكن غيره في الأزل ليمارس معه الصفات والعلاقات. وبناء عليه تكون صفاته وعلاقاته عاطلة في الأزل ثم صارت عاملة بعد خلق الكائنات، وحاشا أن يكون الأمر كذلك لأن الله منزّه عن التغير، وهو مكتفٍ بذاته، مستغنٍ عن مخلوقاته. إذن لا بد أن الله كان يمارس علاقاته وصفاته في الأزل مع ذاته لأن لا شريك له ولا تركيب فيه. ولا بد في هذه الحالة من الاعتراف بأن وحدانيته جامعة - أي جامعة لتعينات الذات الواحدة، لأن من لا تعين له لا وجود له.

ولا تناقض بين الوحدانية والتعينات لأن الله واحد في جوهره وجامع في تعيناته، لأنه يمارس صفاته وعلاقاته مع ذاته بالفعل منذ الأزل، مع تعيناته وليس مع صفاته لأن الصفات معان، وليست تعينات عاقلة يمكن التعامل معها. فلا يقال مثلاً أن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويحبها، أو أن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتحبه، ولكن نقرأ في الكتاب المقدس أن الابن يحب الآب، والآب يحب الابن قبل إنشاء العالم، والروح القدس هو "روح المحبة". وكانت هناك مشورة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة.

ولا بد من الإقرار بتعينات الله، وإلا جعلناه جوهرًا غامضًا لا يمكن الاتصال به أو معرفة شيء عنه، بينما يتفق الجميع على أنه تكلم مع موسى ومع إبراهيم وأظهر ذاته للأنبياء. ووجود التعينات في الله لا يمس وحدانيته كما قلنا لأن التعينات هم ذات الله وليسوا أجزاء من ذاته، حاشا! بل ذات واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد.

لا شك أن هذه الحقيقة فوق الإدراك البشري لأنه لا شبيه لهذه الوحدانية في الكائنات المنظورة، ولكن هذه الحقيقة لا تتعارض مع العقل بل هي معقولة. وقد شهد بمعقوليتها كثيرون من الفلاسفة الموحدين الذين تعمقوا في البحث.

 

آراء بعض الفلاسفة الموحدين في نوع وحدانية الله

وفي الأقانيم قال الإمام الغزالي في كتابه "الرد الجميل" المشار إليه في كتاب "تاريخ الفلسفة في الإسلام" صفحة 196: "يعتقد النصارى أن ذات الباري واحدة في الجوهر، ولها اعتبارات. والحاصل من هذا التعبير الاصطلاحي أن الذات الإلهية عندهم واحدة في الجوهر وإن تكن منعوتة بصفات الأقانيم".

وقال الشيخ أبو الخير الطيب في كتابه "أصول الدين" صفحة 153: "أقوال علماء النصارى تشهد بتوحيدهم، لأنهم يقولون أن الباري تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال، وله ثلاث خواص ذاتية كشف المسيح النقاب عنها وهي: الآب والابن والروح القدس. ويريدون بالجوهر هنا ما قام بنفسه مستغنيًا عن الظروف".

هاتان الشهادتان عن الإيمان المسيحي قريبتان من الصحة. غير أنهما قالا عن الأقانيم أنهم "اعتبارات" أو "صفات" وهذا نقلوه عن بعض فلاسفة المسيحيين دون الرجوع إلى الكتاب المقدس.

وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه ’الطمس في القواعد الخمس‘: "وإذا أمعنا النظر في قول النصارى أن الله جوهر واحد وثلاثة أقانيم لا نجد بينهم وبيننا اختلافًا إلا في اللفظ فقط. فهم يقولون أنه جوهر ولكن ليس كالجواهر المخلوقة، ويريدون بذلك أنه قائم بذاته، والمعنى صحيح ولكن العبارة فاسدة".

ولكن الواقع أنه لا فساد في العبارة، فقد شهد كثيرون من العلماء والفلاسفة أنه يمكن إطلاق كلمة "جوهر" على الله. فقد قال مثلاً الإمام جعفر بن محمد الأشعبي: "يتعين أن يكون الله جوهرًا، أو جوهرًا مع سلامة المعنى". وقد جاءت كلمة "جوهر" مرة واحدة في الكتاب المقدس عن المسيح "الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عبرانيين 3:1).

وجاء في كتاب العقائد النسفية صفحة 162: "لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنوية (أي الذين يعتقدون بإلهين: واحد للخير وآخر للشر) دون النصارى (أي أن النصارى موحِّدون)".

وقال ابن سينا: "الله علم وعالم ومعلوم، وعقل وعاقل ومعقول، ومحبة ومحب ومحبوب". وجاء في مجلة كلية الآداب الصادرة في مايو سنة 1934، وفي كتاب نصوص الحكم للفيلسوف محيي الدين العربي (الصفحات 133-134 و225-226) ما يأتي: "إن أول صورة تعينت فيها الذات الإلهية كانت ثلاثية، وذلك لأن التعيين كان في صورة العلم حيث: العلم والعالم والمعلوم حقيقة واحدة. كما أن أول حضرة إلهية ظهر فيها الله كانت ثلاثية لأنها حضرة الذات الإلهية المتصفة بجميع الأسماء والصفات. فضلاً عن ذلك فإن عملية الخلق نفسها تقتضي وجود الذات الإلهية، والإرادة، والقول: "كن". فالتثليث هو إذن المحور الذي تدور حوله رحى الوجود وهو الشرط الأساسي في تحقيق الإيجاد والخلق".

وقد أنشد الفيلسوف محيي الدين العربي في حب الله قائلاً:

"تثليث محبوبي وقد كان واحدًا       كما صير الأقنام بالذات أقنما"

ولا يقصد هذا الفيلسوف بهذا الشعر وبأقواله السابقة أن يؤيد العقيدة المسيحية لأنه كان من المسلمين المتمسكين، ولكنه أراد أن يعلن أن الله كان يظهر دائمًا في ثالوث هو "العلم والعالم والمعلوم". أو "الذات والإرادة والكلمة". ويقصد أن مجرد اتصاف الله بصفات، وقيامه بأعمال دليل على أنه تعالى ليس أقنومًا واحدًا بل أقانيم.

وقال نفس هذا الفيلسوف: "إن الله هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وعين ما ظهر وعين ما بطن فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة، وكثرة مردّها إلى واحد".

وقال ابن الفارض: "الحمد لله الذي تجلى بذاته، فأظهر حقائق أسمائه وصفاته، فجعلها أعيانا ثابتة وحقائق عينية".

وقال الشيخ البيجوري: "الحاصل أن الوحدانية الشاملة هي وحدانية الذات، ووحدانية الصفات، ووحدانية الأفعال".

وقال صاحب التحقيق: "أرى الكثرة في الواحد. وإن اختلفت حقائقها وكثرت فإنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين".

وقال الإمام الغزالي: "من ذهب إلى أن الله لا يعقل نفسه إنما خاف من لزوم الكثرة". ثم قال: "إن كان عقل الله ذاته فيرجع الكل إلى ذاته فلا كثرة إذن. وإن كانت هذه كثرة فهي موجودة في الأول (أي إنها أصلية في الله أزلاً)".

وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في شرحه لاعتقاد المسيحيين في ذات الله (كتاب الله صفحة 171): "إن الأقانيم جوهر واحد. وإن "الكلمة " و"الآب" وجود واحد، وإنك حين تقول "الآب" لا تدل عن ذات منفصلة عن "الابن" لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية".

 

عقيدة الثالوث ليست مقتبسة من الوثنية

يقول البعض، إما عن عدم درس وفهم أو عن سوء نية بغرض التضليل، يقولون أن عقيدة الثالوث كانت موجودة عند الوثنيين في الهند، وكانوا يطلقون على إلههم المثلث: براهما، وفشنو، وسيفا ويقولون إن البوذيين كانوا يعتقدون أن بوذا ذو ثلاثة أقانيم: الأول والوسط والآخر. وأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون بآلهة ثلاثية: الأولى أمون، وكونس، وموت. والثانية: أوزيريس، وايزيس، وحورس. والثالثة: خنوم، وساتيت، وعنقت. وأن الأول من كل مجموعة هو الآب والثاني هو الابن والثالث هو الروح القدس كما هو الحال عند المسيحيين. ويقولون أن البابليين والفرس والصينيين كانوا يعتنقون مثل هذه العقيدة.

والواقع أن كل هذه الأقوال هراء في هراء وليس لها أي نصيب من الصحة. وهي تقال لتضليل غير الدارسين. ولكن بالدرس الدقيق لتلك الديانات يتضح أن براهما وفشنو وسيفا عند الهنود ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تمامًا. أما بوذا فكان رجلاً عاديًا عاش في الهند حوالي سنة 500 قبل الميلاد وكانت له تعاليم معينة. أما آلهة المصريين فهي لا تنص على أن كل مجموعة من آلهتهم إله واحد بل ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تمامًا فكانوا يمثلون أمون برجل وكونس (أوخنسو) بالقمر، وموت بأنثى النسر. وأوزيريس برجل، وإيزيس بامرأة، وحورس بالصقر، وخنوم بالكبش، وساتيت بامرأة هي زوجته الأولى، وعنقت زوجته الثانية. ولا مجال هنا للكلام عن الأوثان الأخرى عند البابليين والفرس وغيرهم.

فأي افتراء متعمد بجهل تتضمنه أقوال أولئك المعترضين! ويكفي هنا أن نثبت بطلان هذه الأقوال من الوجهة التاريخية باقتباس أقوال الأستاذ عباس محمود العقـاد في كتـاب "الله" الصفحات 149 إلى 154 ونلخصها فيما يلي: "فكرة الله في المسيحية لا تشبهها فكرة أخرى من ديانات ذلك العصر الكتابية أو غير الكتابية. وروح المسيحية في إدراك فكرة الله هي روح متناسقة تشف عن جوهر واحد، ولا يشبهه إدراك فكرة الله في عبادة من العبادات الوثنية. فالإيمان بالله على تلك الصفة فتح جديد لرسالة السيد المسيح لم يسبقه إليها في اجتماع مقوماتها رسول من الكتابيين ولا غير الكتابيين. ولم تكن أجزاء مقتبسة من هنا أو هناك، بل كانت كلامًا متجانسًا من وحي واحد وطبيعة واحدة".

 

تميّز الأقانيم

أقانيم اللاهوت الثلاثة متحدون في الجوهر واللاهوت، ولكل أقنوم كامل صفات اللاهوت؛ أي أزلي، وأبدي، وغير محدود، وكلي القدرة والعلم والسلطان والقداسة. ولكن الأقانيم متميزون، أي أن لكل أقنوم بعض أعمال خاصة لا نستطيع أن ننسبها إلى الأقنومين الآخرين. فهناك تميز واتحاد ولكن ليس هناك امتزاج، أي لا نستطيع أن نقول أن الابن هو الآب ولا الآب هو الابن، مع أن الابن والآب واحد.

وواضح جدًا من الكتاب المقدس أن أقنوم الابن هو الذي جاء إلى العالم متجسدًا مرسلاً من الآب ليتمم عمل الفداء بموته الكفاري على الصليب، فمكتوب: "فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (1يوحنا 10:4). "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبديةُ" (يوحنا 16:3). "وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ" (غلاطية 4:4). والابن يقول "خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ وَقَدْ أَتَيْتُ إلى الْعَالَمِ وَأيضًا أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إلى الآبِ" (يوحنا 28:16). فالآب هو الذي أرسل الابن، وهو الذي بذله لأجلنا وهو الذي قدمه كفارة عن خطايانا. والابن هو الذي خرج من عند الآب، وهو الذي جاء إلى هذا العالم مولودًا من عذراء، وهو الذي مات على الصليب حاملاً قصاص خطايانا. ولا نستطيع أن ننسب إلى الابن ما اختصّ به الآب. ولا ننسب إلى الآب ما اختصّ به الابن، فنقول مثلاً إن الآب تجسّد وأتى إلى العالم مولودًا ومات على الصليب. هذا خطأ محض لأن الذي تجسّد هو أقنوم الابن فقط. ولا يجوز أن نقع في هذا الخلط في الكلام أو في الصلاة، ولو كان سهوًا.

والروح القدس جاء إلى العالم في يوم الخمسين مرسلاً من الآب والابن. جاء بلاهوته - غير متجسد - ليشهد للابن، وليسكن في جميع المؤمنين بعد أن ولدهم ولادة ثانية في كل الأجيال وفي كل مكان في العالم؛ وهذا دليل على لاهوته غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان.

ومن اختصاص الابن أيضًا أن يدين الأشرار، الأحياء والأموات، لأنه هو الذي أكمل الفداء على الصليب. ومما يبين هذا التميز بوضوح قول الوحي: "الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" (يوحنا 22:5).

ومن سخف القول أن هذا التميز يعني انقسامًا أو تجزيئًا في اللاهوت. سبق أن أوضحنا الرد على هذا الاعتراض، لأن اللاهوت واحد غير محدود لا يُدرك ولا ينقسم لأنه لا تركيب فيه. ولكن التميز هو في الأقانيم أو تعينات الله المتحدة في الجوهر بغير انقسام أو امتزاج.

ومن سخف القول أيضًا أنه إذا كان الله قد تجسد ونزل من السماء إلى هذا العالم، فهل كانت السماء خالية في مدة التجسد؟ ومن الذي كان يدير الكون في تلك المدة؟ والخطأ كله يرجع إلى تطبيق ما للكائنات المحدودة التي تقع تحت حِسِّنا وبصرنا على الله غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان من الأزل وإلى الأبد، وبتطبيق أقيسة المحدود على الله غير المحدود.

 

طبيعة الله

تكلمنا فيما سلف عن جوهر الله، لاهوته، وعن صفات الله، وأعماله، ونضيف هنا كلمة مختصرة عن طبيعة الله.

يخبرنا الكتاب المقدس طبيعة الله قائلاً: "اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ"(1يوحنا 5:1). وفي أصحاح 4 يقول مرتين: "اللهَ مَحَبَّةٌ" (عدد 8 و16). ليست هاتان صفتين لله بل هما طبيعة الله: نور (يتضمن القداسة والحق والبر)، ومحبة (وتتضمن الرحمة والرأفة والنعمة والحنان، إلخ...). ولا يمكن أن الله عز وجل يعمل عملاً إلا إذا كان متوافقًا مع طبيعته في الناحيتين.

 

التزام حدود المكتوب

عندما نتأمل في حقيقة الله غير المحدود وغير المدرك في جوهره، وأقانيمه، وطبيعته، وصفاته يجب أن نحرص كل الحرص على التزام حدود الإعلان الإلهي بكل دقة، وأن لا نرتئي فوق ما هو مكتوب أو نضيف أي شيء من أنفسنا، لئلا يضلّ العقل في متاهات الخيال، سيما وأن الشيطان لنا بالمرصاد ليوقعنا في حبائل الكفر أو المساس بجلال الذات القدسية بأي شكل من الأشكال.

 

الإيمان الحقيقي مركزه القلب

ليس الإيمان الحقيقي اقتناعًا عقليًا بمبادئ صحيحة، والاعتراف بها، والدفاع عنها، بل هو الثقة التامة بإعلان الله عن ذاته وطبيعته في كلمته. وهذا الإيمان يسكن في القلب فيشبعه، ويسعده ويملؤه سلامًا، لأنه يربطه بالله بعلاقة محبة وثيقة حية كابن لأبيه. فالعقل يحتاج إلى أن يستريح، والنفس تحتاج إلى أن تشبع وتفرح، ولا يشبعها غير الله لأنها منه. وقد عبر أحدهم عن حاجة كل من العقل والقلب بقوله: "القلوب به هائمة، والعقول فيه حائرة". فلا العقل مستريح، ولا القلب شبعان بدونه. وكتب آخر كتابًا عنوانه "تهافت التهافت" ونحن نشكر الله لأنه أعطانا ما تتهافت إليه قلوبنا، فملأها نورًا وسرورًا "لأَنَّ اللهَ الذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2كورنثوس 6:4).

كما نشكر الله لأننا مارسنا إيماننا عمليًا فتحقق لنا بصورة واقعية إذ نلنا اليقين بالغفران والتبرير والخلاص. "لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ (أي للحصول على البر) وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ" (رومية 10:10). واطمأنت قلوبنا إلى مصيرنا الأبدي السعيد في المجد على أساس موت المسيح لأجلنا، واحتماله دينونة خطايانا على الصليب، كما أن نفوسنا امتلأت هناء واكتفاء، عبّر عنه بعض المؤمنين بقولهم: "لاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ"(مزمور 1:23)؛ وأيضًا "مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأرض" (مزمور 25:73)؛ وأيضًا "قُلْتُ لِلرَّبِّ: أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ" (مزمور 2:16)؛ وأيضًا "يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذَلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ الآنَ لَكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ" (1بطرس 8:1).

ثم أن الإيمان القلبي الحي يثمر أعمالاً صالحة في الحياة العملية "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إيمان وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ" (غلاطية 22:5، 23). وهو أيضًا يعطي للمؤمن النصرة على الخطايا والشهوات، ومحبة المال والماديات ويجعله يسلك سلوكًا سماويًا وهو على الأرض.

هذا وقد اختبرنا إلهنا الذي نؤمن به، بكيفية لا يسهل علينا التعبير عنها إلا بأن نقول للآخرين: "ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ" (مزمور 8:34). فمع أن الله عظيم بلا حدود، ويدير الأكوان، إلا أنه يسمع صلوات المؤمنين به، وينقذهم من كل ضيقاتهم، ويهتم بدقائق أمورهم، لدرجة أن قال المسيح: "شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ" (متى 30:10). ونجد القول المشجع: "لا تخف" في الكتاب المقدس بمعدل مرة لكل يوم من أيام السنة تقريبًا ونجد أقوالاً كثيرة أخرى مثل "لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ" (فيلبي 6:4-7). وأيضًا "مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ" (1بطرس 7:5).

كما أن المؤمن عندما يدخل روحيًا ليسجد في مقادس الله، في شركة عميقة معه، يختبر لذة وسعادة تفوق كل وصف، ولذلك يقول أحدهم: "تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إلى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلَهِ الْحَيِّ" (مزمور 2:84). ويقول داود النبي والملك: "وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أيام حَيَاتِي لِكَيْ أَنْظُرَ إلى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ" (مزمور 4:27). ويقول أيضًا: "أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ" (مزمور 11:16). وأيضًا "كَمَا مِنْ شَحْمٍ وَدَسَمٍ تَشْبَعُ نَفْسِي وَبِشَفَتَيْ الاِبْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي" (مزمور 5:63).

حذار أيها الصديق المسيحي العزيز أن تكتفي بأن تكون مسيحيًا بالاسم فقط، دون أن تختبر الحياة الجديدة في المسيح، وسكنى الروح القدس فيك. إن الإيمان الذي لا يجدد الحياة، ويغير السلوك، ويفتح القلب للمسيح ليحل فيه ويملأه، هو إيمان فارغ وميت لا يغني شيئًا، بل هو شبيه بمصباح لا زيت فيه ولا نور له، أو كغصن جاف لا حياة فيه ولا ثمر له.

أدعوك أيها الصديق الآن أن تأتي بقلبك إلى المسيح فيخلصك من كل خطاياك ومشاكلك، ويسعدك حاضرًا وأبديًا، فقد قال بفمه الكريم: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (متى 11: 28).

 


الفصل الثاني

المسيح هو ابن الله... هل هذا معقول؟

 

رأينا في الفصل السابق أن الله الواحد ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس، فالابن أقنوم إلهي أزلي. وموضوعنا الآن هو اسم "الابن" وما يقصد به، وهذا نجده معلنًا بوضوح في عدة فصول في الكتاب المقدس. وقبل كل شيء يجب أن نستبعد من أذهاننا بالتمام فكرة "الولادة". فالابن ليس مولودًا من الله في الأزل، لا ولادة روحية ولا طبيعية كما هو موجود في بعض الديانات الوثنية كديانة قدماء المصريين وغيرهم حيث يوجد إلاهات زوجات للآلهة وبناء عليه يوجد أبناء للآلهة، وهذا ما يعترض عليه الإسلام أن يكون لله ابن من "صاحبة". ولكن المسيحية بعيدة كل البعد، وسامية كل السمو عن هذا التفكير، إذ هي ديانة روحية من كل الوجوه في عبادتها "نَعْبُدُ اللهَ بِالرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى الْجَسَدِ" (فيلبي 3:3)، وسلوكها بالروح "اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ" (غلاطية 16:5)، وبركاتها "رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أفسس 3:1)، والتمتعات الموعود بها المؤمنون تمتعات روحية سماوية لا أرضية. وكذلك بنوة الابن الأزلية بنوة روحية فريدة تدل على المحبة، والمقام، والمعادلة للآب، وإعلان مجده وصفاته.

فأقنوم الابن هو المعلن لله الذي لا يمكن أن يعلنه سواه. "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب [أي موضوع محبته]  "ابن محبته" (كولوسي 13:1)] هو خبّر (أي أعلن الله)" (يوحنا 18:1). فالله الذي لا يمكن رؤيته يصبح من الميسور لنا رؤيته ومعرفته في أقنوم الابن: "اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1تيموثاوس 16:3). "لإنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2كورنثوس 6:4)؛ الذي هو "بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عبرانيين 3:1). وهو "صُورَةُ اللهِ" (كولوسي 15:1). لذلك قال لفيلبس: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأى الآبَ... صَدِّقُونِي أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ" (يوحنا 9:14 و11).

ومدلول اسم "الابن" كمدلول "الكلمة" من حيث إعلان الله، فنقرأ: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". ثم "ﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يوحنا 1:1 و14).

وبنوة المسيح الأزلية شهد بها الكتاب في العهد القديم أيضًا. وأول إعلان عن ذلك نجده في المزمور الثاني مرتين حيث نقرأ: "قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي". وأيضًا "قَبِّلُوا الاِبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ" (عدد 7 و12). ثم في أمثال 4:30 "مَا اسْمُهُ وَمَا اسْمُ ابْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟". وكان اليهود يعرفون أن البنوة تعني المعادلة لله، لذلك أرادوا أن يقتلوا المسيح لأنه قال: "إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ" (يوحنا 18:5). ومرة أخرى عندما قال ذلك "فَتَنَاول الْيَهُودُ أيضًا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ يَسُوعُ: أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي - بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟ أَجَابَهُ الْيَهُودُ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إنسان تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهًا". لأنه قال "أبي" (يوحنا 31:10-33). وقال له رئيس الكهنة عند محاكمته: "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ" (مرقس 61:14-62). وقد ورد اسم "الابن" في الكتاب المقدس أربعين مرة بخلاف ما ذكر مضافًا إلى الضمائر كقول الله "ابني"، وقول الوحي "أرسل ابنه". وذكرت كلمة "الابن الوحيد" خمس مرات في إنجيل يوحنا وفي رسالته الأولى. ولسمو مقام الابن ومعادلته للآب يقول الرسول يوحنا: "كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الاِبْنَ لَيْسَ لَهُ الآبُ أيضًا، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالاِبْنِ فَلَهُ الآبُ أيضًا" (1يوحنا 23:2).

ويقول الله في المزمور الثاني: "أَنْتَ ابْنِي" أزليًا، بلا بدء ولا كيفية لهذه البنوة، لا ولادة ولا خلق. ثم يقول: "أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" وذلك بالتجسد مولودًا من العذراء مريم. وقوله "أَنْتَ ابْنِي" قبل قوله "أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" دليل على وجوده أزليًا قبل التجسد. ونجد هذا أيضًا في القول: "وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا" (غلاطية 4:4)، وأيضًا "أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ"، أي في جسد مثلنا ولكن خال من الخطية (رومية 3:8). وهذه البنوة الأزلية تفوق العقل البشري، لذلك يقول المسيح له المجد: "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ".

(متى 27:11)

فللمسيح إذن بنوّتان: البنوة الأزلية التي تكلمنا عنها، وبنوته في الزمان بولادته من العذراء مريم حيث نقرأ قول الملاك جبرائيل لمريم: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أيضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ" (لوقا 35:1). وهذه البنوة تختلف عن بنوة كل البشر والملائكة لله كمخلوقاته، وتختلف أيضًا عن بنوة المؤمنين الروحية لله كمن أخذوا طبيعته الأدبية "كُلَّ مَنْ يَصْنَعُ الْبِرَّ مَوْلُودٌ مِنْهُ" (1يوحنا 29:2). ولذلك يدعى المسيح "ابن الله الوحيد"، وأيضًا "ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ" (مرقس 6:12). أما عن المؤمنين فيقال: "أَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ" (عبرانيين 10:2). ولا يقول المسيح لتلاميذه: "أصعد إلى أبينا"، بل "إلى أَبِي وَأَبِيكُمْ" (يوحنا 20: 17)، لأن بنوّته متميّزة. والمؤمنون يدعون "أولاَدَ اللَّهِ" (يوحنا 12:1؛ 1يوحنا 1:3-2). وأيضًا "أبناء الله" (غلاطية 6:3). أما المسيح فيقال له "ابن الله" فقط، فلا يُقال: الوالد والولد، بل "الآب والابن". والمسيح وحده هو الذي يدعى "ابْنِ الآبِ" (2يوحنا 3) لأن بنوّته للآب أزلية "قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ".

(يوحنا 5:17)

ولا يجوز الخلط بين بنوة المسيح في الأزل، وبنوته بناسوته بالولادة من العذراء. ويشار إلى البنوتين معًا في المزمور الثاني، فالقول "أنت ابني" يشير إلى وجوده الأزلي كأقنوم إلهي، والقول "أنا اليوم ولدتك" يشير إلى بنوته لله بطبيعته الناسوتية الكاملة.

ونلخص فيما يلي بعض معاني بنوة الابن للآب:

1. تدل على المحبة الأزلية الفريدة (يوحنا 20:5؛ 24:17، كولوسي 13:1، 2يوحنا 3).

2. تدل على الوحدة في الصورة الإلهية (2كورنثوس 4:4؛ فيلبي 6:2؛ كولوسي 15:1؛ عبرانيين 3:1؛ يوحنا 9:14).

3. تدل على المعادلة لله (يوحنا 7:5؛ 33:10).

4. تدل على المقام الإلهي (يوحنا 23:5؛ 1يوحنا 23:2).

5. تدل على الوحدانية في جوهر اللاهوت "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ" (يوحنا 30:10).

6. تدل على أنها وحدانية فريدة لا مثيل لها (يوحنا 18:1).

7. تدل على أنها وحدة سرية فائقة "لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ".

(متى 27:11)


الفصل الثالث

 

المسيح ليس نبيًا مرسلاً فقط

بل هو الله ظاهرًا في الجسد

 

أوضحنا في الفصل الأول أن الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. وأوضحنا في الفصل الثاني أن الابن هو الأقنوم الإلهي الذي أعلن الله ولم يكن ممكنًا أن يعلنه سواه لأنه "المعادل لله"، بل هو "صورة الله"، "ورسم جوهره". وفي هذين الفصلين - بما فيهما من أدلة كثيرة - كل الكفاية لإثبات لاهوت الابن. ولكننا نريد في هذا الفصل أن نبيّن بنوع خاص أن المسيح الذي وُلد من العذراء مريم "صائرًا في شبه الناس"، وعاش هنا على الأرض" في الهيئة كإنسان"، فجاع، وعطش، وتعب من السفر، ونام في السفينة، وأهين من البشر، هو نفسه الذي حلّ فيه "كل ملء اللاهوت جسديًا"، فكان بناسوته متحيّزًا، وبلاهوته يملأ السماء والأرض، متحدًا مع الآب والروح القدس. وهذا سرّ شخصه الفائق "الذي لا يعرفه إلا الآب" (متى 27:11). وهذا سر عظيم: "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1تيموثاوس 16:3).

لو أن المسيحيين أرادوا أن يتفادوا هذه المشكلة العويصة لكان من اليسير عليهم أن يقولوا إن المسيح كان نبيًا مرسلاً من الله، وأنه أفضل الأنبياء والمرسلين، ولا يقولون إنه هو الله نفسه جاء إلى هذا العالم. ولكن ليس الأمر بيدهم، لأنهم لم يصوغوا إيمانهم لأنفسهم بل قبلوه من الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس، وهو إعلان صادق (كما سنبيّن في الفصل الخامس) سواء استطعنا أن نستوعبه أم لم نستطع، ولكن شكرًا لله لأنه مستوعب ومعقول ويملأ القلب راحة وسلامًا.

إن الصعوبة الكبرى تتجسّم أمام الذين ينظرون إلى أن ولادة المسيح هي بدء وجوده كأي إنسان آخر، بينما لو أمعنوا النظر لرأوا أن نفس ولادته بالجسد لم تكن ولادة عادية كسائر البشر بل كانت من عذراء لم يمسسها رجل. ولم يتكوّن جسده الطاهر من زرع بشر بل من روح الله - جسد مكتوب عنه منذ القديم "هيّأت لي جسدًا". فالنظرة الصحيحة هي أنه أقنوم إلهي كائن منذ الأزل ولكنه في الوقت المعين اتّخذ ناسوتًا طاهرًا ليس له مثيل إذ هو مهيّأ له بكيفية معجزية فريدة، اتخذه ليجيء إلى العالم، ظاهرًا في الجسد لغرض عظيم وهو تمجيد الله الذي أهانه الإنسان بعصيانه، والتكفير عن خطايا البشر، كما سنبين ذلك بالتفصيل في الفصل التالي. وعبارة "ظهر في الجسد" تفيد سابق وجوده قبل ظهوره[3] إذ لا يمكن أن يقال هذا عن أي إنسان، لأن كل إنسان قد بدأ وجوده عند ولادته.

أما المسيح الذي ولد في بيت لحم من العذراء مريم فمكتوب عنه قبل ولادته بمئات السنين "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ... فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا... وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أيام الأَزَلِ" (ميخا 2:5). ونقرأ: "وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ (الابن) اللَّهَ... وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يوحنا 1:1 و14)، وهنا نرى لاهوت الابن السابق لناسوته. ونقرأ في إشعياء 6:9 قبل ولادة المسيح بسبعمائة سنة "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا (المسيح كمن يولد من العذراء)... وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا مُشِيرًا إِلَهًا قَدِيرًا (الله القدير، المسيح في مقامه الإلهي)". واسمه العجيب المشار إليه هنا هو "عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (متى 32:1) أي الله ظهر بين البشر. واسمه أيضًا "يسوع" (متى 21:1)، وهي كلمة عبرانية معناها "الله المخلص". فكلا الاسمين اللذين دُعي بهما عند ولادته يدلان على لاهوته.

إن الصعوبة تبدو لمن ينظر إلى المسيح كإنسان جعله المسيحيون إلهًا، بينما الحقيقة هي العكس، أن الله تنازل ليصير إنسانًا محتفظًا في نفس الوقت بلاهوته، وهذا بحسب قدرته الفائقة. والتنازل هو من حقه الذي لا اعتراض عليه، لأنه يمكن الاعتراض على من يرفع نفسه فوق حقيقته، أما العالي الرفيع إذا تنازل واتضع فهذا مما يمجده في عيوننا سيما وأن هذا التنازل هو من أجلنا.

ولزيادة التأكيد، نأتي بعدة شواهد أخرى من الكتاب المقدس تؤكد لاهوت المسيح بما لا يدع مجالاً للشك، فقد ذكر عنه بصريح العبارة أنه الله: "وَأَمَّا عَنْ الاِبْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ" (عبرانيين 1؛ مزمور 45). وأيضًا "صَعِدْتَ إلى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْيًا. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ وَأيضًا الْمُتَمَرِّدِينَ لِلسَّكَنِ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ" (مزمور 18:68). والذي فعل هذا هو المسيح (أفسس 8:4 و9). ومكتوب أيضًا: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا" (إشعياء 3:40). ويقال هنا "الرب" و"إلهنا" عن المسيح الذي أعد المعمدان طريقه (يوحنا 1: 23). وقال المسيح نفسه "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إبراهيم أَنَا كَائِنٌ" (أي يهوه الأزلي) (يوحنا 8: 58) ويقول عنه الرسول بولس: "الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلَهًا مُبَارَكًا (الله المبارك) إلى الأَبَدِ" (رومية 5:9). ويقول يوحنا: "هَذَا هُوَ الإِلَهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأبديةُ" (1يوحنا 20:5)؛ وأيضًا "لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (1كورنثوس 8:2). ويقول المسيح "أَبْنِي كَنِيسَتِي" (متى 18:16)؛ بينما في أعمال 28:20 نقرأ "كَنِيسَةَ اللهِ". وقال له توما: "رَبِّي وَإلهي" (يوحنا 28:20). ومكتوب أيضًا: "مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (أو إلهنا ومخلصنا العظيم يسوع المسيح) (تيطس 13:2) وهو أيضًا "إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ" الذي هو اسم الله وحده (تثنية 17:10).

كما نسبت إلى المسيح في الكتاب المقدس أعمال إلهية وصفات إلهية، منها أنه خالق كل شيء: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يوحنا 3:1). وأيضًا "الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ" (كولوسي 16:1) وأيضًا "الَّذِي بِهِ (بالمسيح) أيضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ  بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عبرانيين 2:1). وأيضًا "كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ" (يوحنا 10:1). وهو أيضًا "الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (رؤيا 8:1). "الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ" (فيلبي 21:3). وهو "حَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ" (عبرانيين 3:1).

وهو العليم بكل شيء، فقد قَالَ لَهُ تلاَمِيذُهُ: "نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ" (يوحنا 30:16). وقال له بطرس: "يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْء"[4] (يوحنا 17:21). وهو "الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبَِ" (رؤيا 23:2). وهذه صفة الله وحده (إرميا 10:17). وهو الأزلي الأبدي الذي لا يتغير. ونضيف إلى الشواهد السابقة عن ذلك ما يأتي: "يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإلى الأَبدِ" (عبرانيين 8:13). وقيل عن المسيح الذي كانت أيامه قصيرة على الأرض: "إلى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ. مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى...َأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ" (مزمور 25:102-27).

وهو الموجود في كل مكان وزمان، فقد قال: "لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسمي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ" (متى 20:18). وأيضًا "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأيام إلى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ" (متى 20:28). وهذه صفة الله وحده! "أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرض يَقُولُ الرَّبُّ؟" (إرميا 24:23).

وهو الذي يقبل أرواح المنتقلين كما صلى إليه استفانوس: "أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي" (أعمال 59:7). وهو الذي يقيم الأموات كما قال بفمه الكريم: "كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أبديةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأخير" (يوحنا 39:6). وهو "الْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأموات" (2تيموثاوس 1:4). وهو الذي يغفر الخطايا (لوقا 20:5؛ 17:7)، ويعطي الحياة الأبدية (يوحنا 28:10)، وهذان من اختصاص الله وحده.

وقد شهد له نثنائيل قائلاً: "أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ" (يوحنا 49:1). وقالت مرثا التي أقام المسيح أخاها: "أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إلى الْعَالَمِ" (يوحنا 27:11). وقال بطرس الرسول: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ" (متى 16:16).

إن المسيحيين لا يؤلّهون الإنسان، ولا يؤلّهون ناسوت المسيح، لأنه كان ناسوتًا محدودًا متحيّزًا (أي لا يوجد إلا في مكان واحد في وقت واحد)، ولكنهم يؤمنون أن هذا الناسوت كان "يحل فيه كل ملء اللاهوت" بغير اختلاط أو امتزاج (كولوسي 19:1؛ 9:2). فالمسيح له المجد هو "الله (الذي) ظهر في الجسد"، فكان في هذا العالم إنسانًا كاملاً، كامل الإنسانية، وفي نفس الوقت كان ولا يزال بلاهوته يملأ السماوات والأرض. فكانت له طبيعتان، طبيعة إنسانية منزّهة عن الخطية ولكن لها خصائص الإنسان الذي يجوع ويعطش ويتعب ويتألم، وطبيعة إلهية ظهرت في الوقت نفسه في علمه بكل شيء، وقدرته على كل شيء كما رأينا[5]. ويشار إلى الطبيعتين معًا في عدة آيات من الكتاب المقدس: منها "كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ (طبيعته الإلهية)... مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الاِبْتِهَاجِ" (مزمور 6:45-7). وأيضًا "الإنسان الثَّانِي (طبيعته الإنسانية) الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ" (1كورنثوس 47:15). وعدم فهم هذه الحقيقة هو الذي يثير اعتراضات كثيرة، فعندما يقرأ البعض الآيات التي تتكلم عن طبيعة المسيح الإنسانية، أو عن كون الله أعظم منه، يقولون لأول وهلة: إذن المسيح إنسان فقط. ولكن إذا وضعنا في أذهاننا الحقيقة السامية الفائقة الإدراك المعلنة في الكتاب المقدس وهي أن المسيح هو الله وإنسان معًا، زالت الصعوبة تمامًا. وهذه الحقيقة لا يقبلها إلا الإيمان، ومع ذلك فهي حقيقة معقولة لها ما يبررها كما سنرى في الفصل التالي. وإليك أمثلة من الآيات التي تدل على طبيعة المسيح الإنسانية التي بها يعثر كثيرون:

"إلهي! إلهي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي" (مزمور 1:22). وأيضًا "إِنِّي أَصْعَدُ إلى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإلهي وَإِلَهِكُمْ" (يوحنا 17:20). وأيضًا "أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي".

(يوحنا 28:14)

 

آراء بعض العلماء غير المسيحيين

قال الشيخ أبو الفضل القرشي عن المسيح في هامشه على تفسير البيضاوي جزء 2 صفحة 112: "يمكن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأنه لا إله إلا الله".

وقال الإمام أحمد بن حائط "المسيح تذرع الجسد الجسماني، وهو الكلمة القديمة كما قال النصارى". وقال: "المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة".

وجاء في كتاب "البداية والنهاية" جزء 2 صفحة 100 أنه عندما زارت العذراء مريم امرأة زكريا الكاهن قالت هذه لها: "وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك".

وقال الأستاذ الراحل عباس محمود العقاد في كتابه "الله" صفحة 159: "جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإلهية". وصورة الذات الإلهية لا يمكن أن يأتي بها إلا من هو الله نفسه. وقد جاء في الكتاب المقدس أن المسيح "صُورَةُ اللهِ" (2كورنثوس 4:4؛ كولوسي 15:1).

وقال الإمام الغزالي: "إن كلمة "مطاع" الوارد ذكرها في الآية "مطاع ثم آمين"، يراد بها موجود غير الذات الإلهية المنزهة، وهو يحرك الأفلاك، ويدبر الكون، وعن طريقه يتوصل العبد إلى معرفة الموجود المنزّه عن كل ما أدركه البصر والبصيرة، وهذا الموجود ليس هو الله، ولكنه أيضًا ليس شيئًا غير الله. بل إن نسبته إلى الله هي نسبة الشمس إلى النور المحض. وهو أيضًا العقل الإلهي الظاهر أثره في الوجود، والذي به يتلقى الإنسان الوحي والإلهام". ومعنى هذه الأقوال أن "المطاع" هو "الله متجليًا"، الأمر الذي ينطبق على أقنوم "الكلمة" الذي أعلن الله، وهو يحرك الأفلاك ويدير الكون.

وقال الشيخ محيى الدين العربي: "القطب هو الأصل الذي يستمد منه كل علم إلهي. وهو عماد السماء الذي يدبر الأمر في كل عصر. ويدعى حقيقة الحقائق، ويدعى العقل الأول أو الروح الأعظم. وهو باطن الألوهية، والألوهية ظاهرة، وهو الحق أو الله متجليًا لا في زمان أو مكان معين. وهو العقل الإلهي الذي هو عين الذات لا غيره. وهو أول تجلٍّ للحق بعد مرتبة التنزيه المطلق. وأول صورة ظهر فيها الحق وخاطب نفسه. وهو لا يقبل التعريف أو التحديد. وهو العلم الإلهي بمعنى أنه العلم والعالم والمعلوم. وهو كمال محض. وتعزى إليه قوة الخلق والتدبير". وقال أيضًا: "الكلمة هي الله متجليًا لا في زمان معين أو مكان. وإنها عين الذات الإلهية لا غيرها". وكيفما كان قصد الشيخ العربي من كلمة "القطب" فإنه استساغ بفلسفته أن يسند إليه كل هذه الأوصاف ولا يقول أحد أنه كفر. أما نحن المسيحيين فنجد كل هذا في الكتاب المقدس مسندًا إلى المسيح الذي هو الكلمة وهو خالق كل الأشياء، وهو الذي يدبر الأمر في كل عصر، وهو الله متجليًا. وهو عين الذات الإلهية لا غيره. وهو كمال محض، وهو الذي به نتصل بالله.

وحدانية الأقانيم في الذات الإلهية

وفي كل صفات اللاهوت وخواصه

تكلمنا بإسهاب عن لاهوت المسيح، ابن الله، لأنه هو الذي يكثر فيه التساؤل. ولا بد لنا الآن، وإن كنا قد أشرنا إلى ذلك قبلاً، أن نبين أن الأقانيم الثلاثة هم الذات الإلهية الواحدة، واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته ولا أسبقية لأقنوم على أقنوم وإن بدا ذلك، لأول وهلة من أسماء الأقانيم. ويخطئ الذين يقولون: الأقنوم الأول، والثاني، والثالث، لأنه لا يوجد ترتيب لذكر الأقانيم في الكتاب المقدس بل يذكر الآب أولاً مرة، والابن أولاً مرة أخرى، والروح القدس أولاً مرة غيرها، وهكذا. كما أن أسماء الأقانيم لا تدل على أسبقية الآب عن الابن مثلاً، أو اشتقاق الروح القدس من الآب والابن. حاشا! لأن أسماء الأقانيم تدل على التعادل، وعلى العلاقة الروحية الأزلية، فالآب يحب الابن في الأزل "قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ" (يوحنا 25:17). والابن يحب الآب (يوحنا 31:14). والروح القدس "رُوحَ... َالْمَحَبَّةِ" (رومية 30:15؛ 2تيموثاوس 7:1). ولا يقال عن الآب الوالد بل الآب، لأن أبوّة الآب للابن هي علاقة محبة روحية سامية كما سبق القول، إذ أن الله بأقانيمه الثلاثة محبة "الله محبة". وقد ظهرت هذه المحبة بكمالها للبشر في إرسال الآب للابن كفارةً عن خطايانا. وفي تطوّع الابن ببذل نفسه كفارةً من أجلنا، وذلك بروح أزلي.

وقد قيل في الكتاب المقدس عن الآب أنه "اللهُ أَبُونَا" (2تسالونيكي 16:2). وقيل أننا باللسان "نُبَارِكُ اللَّهَ الآبَ" (يعقوب 9:3) ولا جدال في لاهوت الآب. أما لاهوت الابن فقد أوردنا عنه آيات كثيرة في هذا الفصل. بقي أن نقول كلمة عن "الله الروح القدس" سيما وأن البعض لا يدركون أقنوميته ويتصوّرون أنه قوة أو تأثير أو صفة من صفات الله، والبعض عن بساطة يتكلمون عنه بصيغة التأنيث فيقولون مثلاً: "حلت الروح" أو "الروح التي".

أقنومية الروح القدس ولاهوته

الروح القدس له كل المميزات والصفات الإلهية:

  1. فهو كلي العلم "يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ... أمور اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ" (1كورنثوس 10:2-11).
  2. وهو يفعل كما يشاء (1كورنثوس 11:12).
  3. وهو أزلي (عبرانيين 14:9).
  4. ويعرف المستقبل ويخبر به (لوقا 26:2؛ يوحنا 13:16).
  5. وهو كلي القدرة (رومية 19:15).
  6. وهو القدوس، وهذه صفة الله وحده (أفسس 30:4؛ رؤيا 8:4).
  7. وهو الحق "الروح هو الحق" (1يوحنا 6:5).
  8. وله ينسب الخلق (أيوب 4:23؛ مزمور 6:33؛ مزمور 30:104).
  9. وهو موجود في كل مكان (مزمور 7:139-8). وهو يسكن في جميع المؤمنين في كل زمان ومكان (يوحنا 17:14؛ أفسس 1:1).
  10. وهو المحيي (يوحنا 63:6؛ 2كورنثوس 6:3؛ رومية 11:8).
  11. وهو مصدر الوحي "بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بطرس 21:1).
  12. ويذكر صراحة أن الروح القدس هو الله، فقد قال بطرس لحنانيا: "لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ... أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ" (أعمال 4:5).

أما بخصوص كون الروح القدس أقنومًا، يتكلم ويسمع ويخبر ويحب، ويحزن، وليس مجرد قوة أو تأثير، فيكفي أن نورد الشواهد الآتية: "قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاول لِلْعَمَلِ" (أعمال 2:13). "رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ" (متى 20:10). "وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ... كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأمور آتِيَةٍ" (يوحنا 13:16). ومكتوب أيضًا: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ... وَبِمَحَبَّةِ الرُّوحِ" (رومية 30:15). ويقول الرسول بولس: "لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ" (أفسس 30:4).

 

أقوال بعض العلماء الموحدين عن الروح القدس

قال عبد الكريم الجبلي (مجلة كلية الآداب مايو سنة 1934) "روح القدس غير مخلوق". ولا يوجد كائن غير مخلوق إلا الله.

وقال الإمام الرازي في تفسيره جزء 5 صفحة 521 "روح الله هو سبب الحياة". وسبب الحياة هو الله.

وقال الزمخشري في تفسيره جزء 1 صفحة 162 "روح الله هو الاسم الأعظم". والاسم الأعظم هو اسم الله.

وقال محمد بيومي الحريري: "روح القدس هو روح الأرواح. وهو المنزّه عن الدخول تحت حيطة القول "كن" (الذي كان الله يخلق به المخلوقات). ومن ثم لا يجوز أن يقال في الروح أنه مخلوق، لأنه وجه خاص من وجوه الحق (الله) قام الوجود بذلك الوجه. فهو روح لا كالأرواح لأنه روح الله. وذلك الروح هو المعبَّر عنه بالوجه الإلهي في الآية "فأينما تولوا فثم وجه الله"، وهذا يطابق ما جاء في مزمور 139.

 


الفصل الرابع

المسيح، وهو الله ظاهرًا في الجسد،

مات مصلوبًا... هل هذا معقول؟

عرفنا من الفصول السابقة أن الله الواحد ثلاثة أقانيم، وأنه مكتفٍ بذاته ويمارس صفاته مع ذاته أزليًا، في وحدة ومحبة فائقة الإدراك بين الأقانيم الثلاثة. عرفنا الله، لا كما صورته لنا عقولنا، بل كما أعلن ذاته لنا في كتابه المقدس، وفي أقنوم الابن الذي جاء متجسدًا إلى هذا العالم ليعلن الله. ومعرفة الله هي أعظم وأثمن شيء في الوجود. ولكن هنا يأتي السؤال الهام: هل نستطيع أن نصل إلى الله الذي عرفناه، ونقترب منه، وننال الحظوة لديه؟ هل يمكن أن تكون لنا شركة معه ونحن هنا على الأرض، وأن نساكنه في الأبدية التي لا نهاية لها؟ الجواب: كلا. لأنه قدوس، كلي القداسة، ونحن خطاة نجسون كل النجاسة. هذا فضلاً عن أنه تعالى قد أصدر علينا حكمًا بالموت الأبدي نتيجة لعصياننا عليه. ومن أين لنا أن نخلص من هذا الحكم من جهة، وأن نتوافق مع قداسته من الجهة الأخرى؟

إن ملائكته اللامعين القديسين الذين لم يخطئوا يغطون وجوههم أمامه، لا بالنسبة لمجده وجلاله فقط، بل بالنسبة لقداسته الفائقة، اذ وهم يغطون وجوههم ينادون قائلين: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ[6]" (إشعياء 2:6-3)، فكيف يمكن أن يقترب منه الإنسان الخاطئ؟ وهذا ما شعر به أصحاب أيوب قديمًا فقال أحدهم: "وَإلى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً. فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ" (أيوب 18:4-19). وقال آخر: "السُّلْطَانُ وَالْهَيْبَةُ عِنْدَه... هُوَذَا نَفْسُ الْقَمَرِ لاَ يُضِيءُ وَالْكَوَاكِبُ غَيْرُ نَقِيَّةٍ فِي عَيْنَيْهِ. فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الإنسان الرِّمَّةُ وَابْنُ آدَمَ الدُّودُ" (أيوب 2:25 و6). وإذ كنا لا نستطيع أن نصل إلى الله فما الفائدة من معرفته؟ إنها لا تزيدنا إلا حسرةً وألمًا. ولكن شكرًا لله لأنه وجد حلاًّ وحيدًا لهذه المشكلة المستعصية. وقبل أن نوضح هذا الحل الإلهي لا بد أن نشير إلى حقيقة حالنا كبشر كما يكشفها لنا الله في كتابه المقدس، لنرى البعد الشاسع والهوة السحيقة بيننا وبين الله، وكيفية السبيل إلى عبورها.

 

حقيقة حالنا كبشر خطاة

لقد خلق الله الإنسان في حالة البرارة والطهارة كما هو مكتوب "أَنَّ اللَّهَ صَنَعَ الإنسان مُسْتَقِيمًا" (جامعة 29:7). ولكنه عصى الله وتعدى الوصية الوحيدة التي أعطاها له، فوقع تحت طائلة القصاص الذي أصدره الله وأنذره به مقدمًا قائلاً: "يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا (أي من شجرة معرفة الخير والشر) مَوْتًا تَمُوتُ" (تكوين 17:2). وهذا الموت ثلاثي: موت روحي، وموت جسدي، وموت أبدي. الموت الروحي هو الانفصال عن الله، وهذا ما حدث بمجرد السقوط في الخطية، إذ شعر آدم وحواء بعدم توافقهما مع محضر الله، فاختبآ "في وسط شجر الجنة" قبل أن يطردهما الله منها. وهذا الموت الأبدي سرى في كيانهما مفسدًا طبيعتهما، وتوارثه نسلهما كما هو مكتوب: "بِإنسان وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إلى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رومية 12:5). وقد شهد بذلك داود النبي إذ قال: "هَئَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي" (مزمور 5:51). وشهد بذلك بعض العلماء، فقال أرسطو: "إن أكثر أعمال الإنسان محكومة بالعواطف والشهوات. لذلك فإنه يقع في الخطأ مهما علم العقل بضرره. فالإنسان يفكر جيدًا ويرشده فكره إلى الصواب، لكن تتغلب عليه شهوته فتغويه". وقال آخر: "إن الأطفال يأتون إلى العالم وفي طبيعتهم العناد والشر والأنانية".

وكلنا نعرف الحقيقة أن "النفس أمّارة بالسوء" مع أن الله لم يخلقها هكذا ولكنها فسدت بالسقوط وهذا أمر طبيعي؛ فالحية لا تلد إلا حية، والخنزيرة لا يمكن أن تلد حملاً، وكذلك لا يجنَوْن من الشوك عنبًا ولا من الحسك تينًا، ولا تقدر شجرة رديئة أن تصنع أثمارًا جيدة (متى 16:7-18)، فالناس خطاة لسببين:

أولاً: لأنهم مولودون بطبيعة فاسدة.

ثانيًا: لأنهم يخطئون بإرادتهم نتيجة لتلبية رغبات طبيعتهم الفاسدة. كما يقول الرسول "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا (أي أنتنوا ولم يعد لهم نفع). لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رومية 12:3).

هذا هو الموت الروحي. أما الموت الجسدي فحكم به الله على الإنسان بقوله لآدم: "حَتَّى تَعُودَ إلى الأرض الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإلى تُرَابٍ تَعُودُ" (تكوين 19:3). ولكن العودة إلى التراب ليست هي النهاية لأن نفس الإنسان خالدة تبقى إلى الأبد، لذلك يقول الرسول بولس: "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عبرانيين 27:9). وبعد الدينونة (المحاكمة) أمام العرش العظيم الأبيض يُطرح جميع الأشرار في النار الأبدية ويقول الكتاب: "هَذَا هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي" (رؤيا 14:20)، أي بعد الموت الجسدي الأول. وعذاب النار الأبدية حقيقة تقر بها جميع الأديان.

وخلاصة القول هي أن السقوط جلب على البشر:

  1. الموت الروحي أي الانفصال عن الله، ويتبع هذا فساد الطبيعة البشرية التي صارت مستودعًا لكل بذور الشر والعداوة والقتل والأنانية والشهوات بدرجة تجعل الناس أنفسهم ينفرون من هذه الشرور في الآخرين، فكم بالحري هي كريهة في نظر الله!
  2. الموت الجسدي أي انفصال الروح عن الجسد الذي يعود إلى التراب الذي أخذ منه.
  3. العذاب الأبدي الذي هو قضاء الله على جميع الخطاة.

وبناء عليه فلا يمكن أن يقترب الإنسان إلى الله أو تكون له معه علاقة حاضرًا وأبديًا إلا إذا تم إيفاء مطاليب عدل الله، وإنقاذ الإنسان من عواقب السقوط الوبيلة السابق الإشارة إليها حتى يمكن أن تزول عنه صفة الذنب ويتبرر أمام الله. ولا بد أيضًا من إعطاء الإنسان طبيعة جديدة بها يتوافق مع الله ويصلح لمساكنته. ومعالجة حالة الإنسان من كل الوجوه بالكيفية التي ذكرناها مستحيلة على الإنسان تمامًا بالرغم من كل محاولاته المستمرة.

 

حالة الإنسان الساقط والعلاج الإلهي في (تكوين 3)

مما يسترعي النظر أن الفصل الذي يخبرنا عن سقوط الإنسان في أول صفحات الكتاب المقدس (في تكوين 3) يرينا بوضوح:

  1. نتائج السقوط الوبيلة التي أشرنا إليها.
  2. فشل جهود الإنسان لمعالجة حاله وعودته للاقتراب إلى الله.
  3. العلاج الإلهي الكامل الذي يكفل التبرير والقبول والخلاص من العقاب الأبدي، وكأن الله قد أودع كل بذور مقاصده الصالحة نحو الإنسان في الصفحات الأولى من كتابه المقدس.

ونبين باختصار كيف نجد هذه النقاط الهامة الثلاث في سفر التكوين الأصحاح 3 و4:

  1. نجد فساد طبيعة الإنسان في التشكك في محبة الله وفي صدق أقواله، حيث أوهمه الشيطان أن الله منع عنه خيرًا بنهيه إياه عن الأكل من الشجرة وبأن الله غير صادق في تهديده إياه بالموت. هذا فضلاً عن استهانة الإنسان بسلطان خالقه، وإهانته بالتعدي على وصيته. وزاد الطين بلة بإلقاء تبعة سقوطه على الله قائلاً: "الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ" (تكوين 12:3). وقد ظهرت علامات هذا الفساد في وجود الإنسان في حالة العري والخزي، وفي اختبائه من محضر الله.

2. على أن الإنسان لم يستسلم لله ليعالج حاله التعيس بل حاول أن يعالج أمره بنفسه (عندما نقول الإنسان نقصد آدم وحواء معًا) "فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" (تكوين 7:3). وكل ما استطاعت هذه المآزر أن تفعله هو أن تغطي عري الواحد منهما عن الآخر، وليس عن الله، لأن آدم وهو متزر بالمآزر يقول لله: "لأني عريان". وأوراق التين تمثل كل الوسائل البشرية في كل العصور لمحاولة إصلاح طبيعة الإنسان وتهذيبها، وكل وسائل الصقل وتحسين الأخلاق والمظهر، فإن هذه كلها إنما تخفي مخازي الإنسان الداخلية عن إخوانه، ولكنها لا يمكن أبدًا أن تخفيها عن نظر الله أو أن تصلح طبيعة الإنسان بأي درجة من الإصلاح، كما هو مكتوب: "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ" (يوحنا 6:3). وأيضًا "لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ...هُوَ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعًا لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أيضًا لاَ يَسْتَطِيعُ. فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ" (رومية 6:8-8). ونرى صورة لذلك في إشعياء النبي، إذ لم يستطع أن يكتشف حقيقة حاله إلا في نور مجد الرب فصرخ قائلاً: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إنسان نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ" (إشعياء 5:6). ثم نجد في تكوين 4 أن قايين، أول ابن لآدم، حاول أن يقترب إلى الله بأعماله، بمجهوده وتعب يديه، فرفضه الله ولم ينظر إليه. هذا هو الطريق الذي اختطه قايين لنفسه متجاهلاً فساد طبيعته وقضاء الله عليه بالموت كخاطئ.

وهو نفس الطريق الذي يسير فيه كل من يظن أن أعماله الصالحة يمكن أن تؤهله للاقتراب من الله بينما يقول الكتاب صراحة: "وَيْلٌ لَهُمْ لأَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ قَايِينَ[7]" (يهوذا 11).

3. أما العلاج الإلهي فيتمثل أولاً وقبل كل شيء في الوعد الإلهي بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية، ثم في أقمصة الجلد التي صنعها "الرَّبُّ الإِلَهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ... وَأَلْبَسَهُمَا" (تكوين 21:3). أما نسل المرأة فهو المسيح، المخلص الوحيد الذي "جاء مولودًا من امرأة" من عذراء لم يمسسها رجل، إذ حُبل به فيها من الروح القدس (متى 20:1). أما سحقه رأس الحية فكان بالموت على الصليب المُشار إليه بالقول: "أنت تسحقين عقبه" (أي طبيعته الإنسانية)، وفي ذلك مكتوب أيضًا أن المسيح اشترك في اللحم والدم "لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ" (عبرانيين 14:2). وهنا نجد ثلاث حقائق في غاية الأهمية، هي خلاصة موضوع هذا الكتاب:

1. لاهوت المسيح، لأنه من ذا الذي يسحق رأس الشيطان إلا الله.

2. ناسوت المسيح الذي به صار نسل المرأة.

3. موت المسيح الكفاري الذي بواسطته انتصر على الشيطان وسحقه.

أما أقمصة الجلد ففيها إشارة واضحة إلى الفداء والكفارة. وسنتكلم عن ذلك بالتفصيل لأنه السر في موت المسيح مصلوبًا الذي هو موضوع هذا الفصل. ولكن قبل ذلك أشير إلى نقطتين في الأصحاح الثالث من سفر التكوين: النقطة الأولى أن آدم بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة آمن، ولذلك كساه الله بقميص الجلد بعد إيمانه. وهذا هو طريق الله للتبرير دائمًا: السمع، والإيمان، ولبس المسيح كثوب البر، ويتمثل هذا في القول: "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإيمان بِدَمِهِ" (رومية 24:3).  أما دليل الإيمان في آدم فهو أنه بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة دعا اسم امرأته حواء (أي حياة) لأنها أم كل حي، مع أنه سمع قبل ذلك مباشرة أنه سيموت ويعود إلى الأرض التي أُخذ منها، ولكنه بالإيمان بوعد الله عن نسل المرأة ارتفع فوق دائرة الموت ودعا اسم امرأته "حياة". وبعد ذلك نقرأ مباشرة "صنع الرَّبُّ الإِلَهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا". فجاء التبرير نتيجة للإيمان.

أما النقطة الثانية فنجدها في آخر هذا الأصحاح الثالث من التكوين وهي أن الله "َأَقامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ" (تكوين 24:3).

وفي هذا نجد الإشارة إلى أن الوصول إلى "شجرة الحياة" أو بالحري نوال الحياة الأبدية يحول دونه "الكروبيم ولهيب السيف المتقلب". ولم يستطع أحد أن يفتح لنا هذا الطريق ويوصلنا إلى الحياة الأبدية إلا المسيح الذي تنبأ عنه زكريا قبل مجيئه بالجسد بخمسمائة سنة قائلاً: "اِسْتَيْقِظْ يَا سَيْفُ عَلَى رَاعِيَّ وَعَلَى رَجُلِ رِفْقَتِي يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. اضْرِبِ الرَّاعِيَ" (زكريا 7:13). أما الكروبيم فكانت مصورة على حجاب الهيكل. ولما مات المسيح على الصليب نقرأ "فَصَرَخَ يَسُوعُ أيضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إلى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إلى أَسْفَلُ" (متى 50:27-51)، أي أن الكروبيم الحارسين لطريق شجرة الحياة قد أفسحوا الطريق للوصول إلى حضرة الله، إلى الحياة الأبدية على أساس الإيمان بموت المسيح الذي فيه احتمل ضربة سيف العدل الإلهي عوضًا عنا.

 

حتمية الفداء بموت المسيح

رأينا فيما سلف أنه لا يمكن للإنسان تمجيد الله ومحو الإهانة التي لحقته بسبب العصيان، كما لا يمكنه تخليص نفسه من عواقب سقوطه، والحصول على التبرير والقبول لديه تعالى. ومن ثم لزم موت المسيح لفدائه ولتحقيق هذه الأغراض، وهنا يأتي السؤال: ألم تكن هناك وسيلة أخرى؟ الجواب: كلا. وهنا يأتي سؤال آخر: كيف يسوغ لنا أن نحصر قدرة الله غير المحدودة في وسيلة واحدة لا بديل لها؟ الجواب: إن الله يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أي أمر، ولكن ذلك في مجال كماله المطلق وتوافق جميع صفاته معًا. فلا يقدر الله أن ينكر نفسه (2تيموثاوس 13:2). ولا يمكن أن ينكث عهده "وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ" (مزمور 34:89؛ عبرانيين 18:6).

وبما أن الله عادل وقدوس فلا يتفق مع عدله وقداسته أن يتساهل مع الخطية أو يدعها تمر بدون توقيع القصاص الذي صدر منه تعالى "لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ" (رومية 23:6). صحيح أن الله غفور رحيم، ونحن نعتز برحمته ومحبته اللتين لا حد لهما. ولكن الرحمة لا يمكن أن تتجه إلا متوافقة مع القداسة والعدل. فالذين يريحون ضمائرهم بترك أمر خطاياهم إلى رحمة الله هم واهمون إن لم يستندوا على الأساس الصحيح للرحمة وهو الفداء بواسطة بديل كفء يتحمّل كل متطلبات العدل؛ وحينئذ يتسع المجال أمام رحمة الله لتتجه للبشر الخطاة لقبولهم وتبريرهم عدلاً حيث يكون الله "بارًا (عادلاً) ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رومية 26:3). ولا يوجد بديل كفء إلا المسيح وحده كما سنرى. والصليب هو الحل الوحيد الذي فيه تمت النبوة "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا" (مزمور 10:85).

ومبدأ الفداء يملأ الكتاب المقدس من أوله إلى آخره. فقد رأيناه لأول مرة في تكوين 3 ثم في تكوين 4 كما سبقت الإشارة. وكان تقديم الذبائح هو طريق العبادة المقبولة لدى الله كما نرى في نوح حيث نقرأ أنه "أَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا" (تكوين 21:8). وكان إبراهيم يقيم المذبح ملازمًا لخيمته. كما نقرأ عن أيوب الذي كان معاصرًا لإبراهيم أنه كان يقدم ذبائح بعدد بنيه لفدائهم من القصاص على ما قد يكون صدر منهم من خطايا ولو بالفكر. وقال الله: "أَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ" (لاويين 10:17)، ولذلك قال الرسول بولس: "بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ" (عبرانيين 22:9).

وتقديم الذبائح يفيد الاعتراف بالخطايا وباستحقاق الموت. وقد رسم الله لشعبه قديمًا في سفر اللاويين أربعة أنواع رئيسية من الذبائح هي: المحرقة، وذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم، وذبيحة السلامة. ومن الذبائح ما كانوا يضعون أياديهم على رؤوسها ويقرون بخطاياهم رمزًا لانتقال هذه الخطايا إلى الذبيحة قبل ذبحها. أما المحرقة فكانوا يضعون أيديهم على رأسها رمزًا لانتقال براءتها إلى مقدم الذبيحة.

ولم تكن تلك الذبائح إلا رمزًا لتقديم المسيح نفسه ذبيحة لله بحسب رسم المشورات الأزلية. ولذلك لما رأى يوحنا المعمدان المسيح مقبلاً إليه قال: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا 29:1).  أما الذبائح في ذاتها فلم تكن ترفع خطايا "لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا. لِذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إلى الْعَالَمِ يَقُول ُ(المسيح): ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا... هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ... يَنْزِعُ الأول (أي الذبائح الحيوانية) لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ (أي ذبيحة المسيح). فَبِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً" (عبرانيين 4:10-10). ولذلك قال داود: "لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى" (مزمور 6:51). وقال ميخا: "بِمَ أَتَقَدَّمُ إلى الرَّبِّ...؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ...؟ هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكِبَاشِ...؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟" (ميخا 6:6-7).

 

الشروط الواجب توافرها في الفادي

1. لا بد أن يكون الفادي إنسانًا، ولذلك دعي المسيح "ابن الإنسان"  و"الإنسان الثاني" و"آدم الأخير" لكي يستطيع أن يموت عن البشر ليفديهم.

2. يجب أن يكون هذا الإنسان بارًا وكاملاً لأن الخاطىء لا يمكن أن يفدي الخاطىء، لذلك مكتوب: "الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإنسان فِدَاءً وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ فَغَلِقَتْ إلى الدَّهْرِ" (مزمور 7:49-8). والمسيح، له المجد، مكتوب عنه أنه "لم يفعل خطية"، و"لم يعرف خطية"، و"ليس فيه خطية". وقد شهد ببره جميع أعدائه، حتى مسلمه يهوذا، والذي حكم عليه بيلاطس.

3. أن تكون قيمته أعظم من قيمة كل البشر معًا، لأنه لا يفدي إنسانًا واحدًا بل ملايين المؤمنين في كل الأجيال. ولا يتوافر هذا الشرط إلا في المسيح الذي هو الله "الذي ظهر في الجسد".

4. أن يكون ملكًا لنفسه أي غير مخلوق، لأن كل مخلوق هو ملك لله خالقه ولا يمكن أن يقدم لله ما لا يملكه. ولا يتوفر هذا الشرط إلا في المسيح، له المجد، الذي هو الخالق. وقد قال: "لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أيضًا" (يوحنا 18:10).

5. أن يكون قادرًا وراغبًا في تحمّل قصاص خطايا كل البشر الذين ينوب عنهم. كما أنه يكون قادرًا أن يعطي لمن يفديهم حياة روحية وطبيعة أدبية تتوافق مع الله.

وبناء عليه لا يمكن أن يكون الفادي إلا المسيح وحده الذي هو الله وإنسان معًا.[8]

 

محبة الله الفائقة المعرفة

يقول قائل: ما الذي يلزم الله بسلوك هذا الطريق الشاق الفائق العقل لفداء بشر خطاة كان يمكن أن يبيدهم ويخلق أفضل منهم؟! إني فعلاً أعذر مقدِّم هذا السؤال لأنه من ذا الذي يستطيع أن يعرف محبة الله أو يصل إلى بعض أغوارها! والرسول بولس نفسه يقول أنها "فائقة المعرفة" (أفسس 19:3). ويقول يوحنا الرسول: "الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ... وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إلى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (1يوحنا 7:4-10). وقال أيضًا: "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبديةُ" (يوحنا 3: 16). وقال الرسول بولس: "اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رومية 8:5). إني لا أرى في سؤال السائل اعتراضًا، بل تعجّبًا، وحق له أن يتعجب لأن الله عجيب في كل شيء لا سيما في المحبة التي هي طبيعته.

هذه المحبة هي التي خططت مشروع الفداء العظيم ونفّذته. لماذا؟ "حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ... حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ... حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ" (أفسس 5:1-9). وقد قال الرب يسوع: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأرض (أي بالصليب) أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يوحنا 32:12). ليت قلوبنا تتعمق في محبة الله وتُجتذب إليه، وتُحصر في محبته فنقول مع الرسول: "نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أولاً" (1يوحنا 19:4).

 

لم يمت المسيح كشهيد

لم يكن ممكنًا أن يموت المسيح كشهيد لأن "بالخطية الموت"، والمسيح كان خاليًا من الخطية "ليس فيه خطية". فلم يكن للموت سلطان عليه، كما قال بفمه الكريم: "ليس أحد يأخذها (أي حياتي) مني بل أضعها أنا من ذاتي". ولذلك قصد اليهود مرارًا أن يقتلوه، ولكن لم يجسر أحد أن يمسكه بل كان يمر في وسطهم ويمضي "لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ". وحتى في الليلة الأخيرة التي فيها قبضوا عليه، عندما قال لهم: "أَنَا هُوَ، رَجَعُوا إلى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأرض" (يوحنا 18: 6).

وعندما حوكم أمام بيلاطس، لم يدافع عن نفسه، ولم يجب على أسئلته حتى تعجب الوالي جدًا، وكذلك هيرودس. ولكن لما قربت الساعة المعينة "ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إلى أُورُشَلِيمَ" (لوقا 51:9)، ولم يثنِ عزمه توسلات تلاميذه ومنهم بطرس الذي قال له: "حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!" (متى 22:16). كما يقول بروح النبوة "إلى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ... جَعَلْتُ وَجْهِي كَالصَّوَّانِ".

(إشعياء 5:50-7)

وعندما أتت الساعة سلم نفسه بإرادته، وأيضًا "مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ" (أعمال 23:2)، "لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ[9]" (عبرانيين 9:2).

ويظهر الغرضان الساميان من تقديم المسيح نفسه للموت في آية واحدة حيث يقول الرسول بولس: "كما أحبنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة" (أفسس 2:5). وزيادة على الشواهد العديدة التي قدمناها للدلالة على موت المسيح الفدائي الكفاري نضيف الشواهد الآتية:

من العهد القديم: "ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ... يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ... لَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي (من العطش) وَإلى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي" (مزمور 22: 16، 18، 15). "الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ، وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ... وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ" (مزمور 20:69-21). "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِجُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ... بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا... وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إشعياء 53). وفي نبوة زكريا نجد الثلاثين من الفضة التي باع بها يهوذا سيده (زكريا 12:11)، ونجد طعن جنب المسيح بالحربة (زكريا 10:12)، ونجد أيضًا الجروح التي في يديه (زكريا 6:13).

من العهد الجديد: "لأَنَّ ابْنَ الإنسان أيضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (مرقس 45:10). "جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ" (يوحنا 51:6). "لأَنَّ فِصْحَنَا أيضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا" (1كورنثوس 7:5). "الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ" (1كورنثوس 3:15). "الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا" (أفسس 7:1). "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ" (1تيموثاوس 2: 6). "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا" (تيطس 14:2). "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ... بِدَمٍ كَرِيمٍ... دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (1بطرس 18:1-20). "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ" (1بطرس 24:2). "الْمَسِيحَ أيضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إلى اللهِ" (1بطرس 18:3). "الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ" (رؤيا 5:1).

 

دليل قبول الكفارة

هل قُبِلَتْ كفارةُ المسيح؟ نعم، بكل يقين. وأول دليل على ذلك انشقاق حجاب الهيكل في لحظة موت المسيح. والحجاب هو الذي كان يغلق الطريق إلى محضر الله.

والدليل الثاني، أن الله أقام المسيح من الأموات. "الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا" (رومية 25:4).

والدليل الثالث، أنه دخل إلى السماء "كَسَابِقٍ لأَجْلِنَا" (عبرانيين 20:6)، أي أنه فتح لنا الطريق للدخول إلى هناك. ولم يدخل إلى السماء فقط بل "جلس في يمين العظمة في الأعالي" حيث قال له الله، إذ شبع بكمال عمله على الصليب: "اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" (عبرانيين 3:1 و13).

بركات الإيمان بالفداء

لقد أكمل المسيح عمل الفداء وصار كل شيء معدًّا للاقتراب إلى الله والتمتع بكل بركاته. وليس على الإنسان إلا الإيمان بكمال الفداء الذي أتمه المسيح لأجله شخصيًا. وما أكثر، وما أعظم البركات التي ينالها المؤمن! الواقع أنها "كُلّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ" (أفسس 3:1) ولا يسعنا الوقت لتعداد هذه البركات ولكننا نذكر منها ما يأتي:

غفران الخطايا، التبرير (كأن المؤمن لم يفعل ذنبًا على الإطلاق)، الولادة الثانية (أي الحصول على طبيعة جديدة طاهرة)، عطية الروح القدس ليسكن في المؤمن، وبه يميت أعمال الطبيعة الفاسدة، وينتج ثمار الطبيعة الجديدة. كما أنه بالروح القدس يقدّم الصلاة والعبادة المرضية لله "السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ" (يوحنا 23:4).

وهكذا تأتي نفس المؤمن إلى الله ساجدة متعبدة لتتمتّع بالشركة معه كالآب المحب، ولها اليقين بأنه عندما يأتي المسيح ثانية تكون معه في المجد في بيت الآب (يوحنا 3:14).

 

أقوال بعض العلماء عن صلب المسيح

قال إدريس في تفسير ابن كثير جزء 1 صفحة 366 "الله أمات المسيح ثلاثة أيام ثم بعثه ورفعه". وقال شوقي أمير الشعراء مخاطبًا المسيح:

عيسى! سبيلك رحمة ومحبــة      في العالمين، عصمة وسلام

خلطوا صليبك والخناجر والمدى      وكـل أداة للأذى وحسـام

وقال الأستاذ علي محمود الشاعر:

نسي القوم وصاياك وأضلوا وأساءوا     كما باعوك يا منقذ بيع الأبرياء

عجب فديتك المثلى وفي القول عزاء     ألهذا العالم الشرير ضاع الفداء؟


الفصل الخامس

صحة وحي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وعدم وصول أي تحريف إليه

بما أننا استقينا كل الحقائق في الفصول السابقة من الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس، فلا بد من إثبات صدوره بوحي من الله، وسلامته من أي زيف أو تحريف. والواقع أن تهمة تحريف الكتاب المقدس تهمة جزافية باطلة غير مقبولة شكلاً أو موضوعًا، لأنها غير مدعمة بأسانيد الاتهام الواجبة. فتهمة التزييف يجب أن تقترن بتحديد الآيات المزيّفة، وبيان الأصل قبل التزييف لمضاهاتها عليه، وبيان زمان التزييف، وكيفيته، والغرض منه، ومن الذين قاموا بالتزييف، وكيف اتفقوا عليه، وكيف لم يفطن له أحد طوال الأجيال.

من السهل أن تكيل الاتهامات لشخص دون أن تقدم الأدلة عليها. ولكن أغرب الكل أن تتهم شخصًا لا تعرفه شخصيًا، وتبني اتهامك على ما سمعته من آخرين.

هل تعرف الكتاب المقدس؟

هل قرأته؟

تأكد يا صديقي أنك إذا قرأت الكتاب المقدس فسوف يسقط اتهامك من تلقاء ذاته، لأن الكتاب وحدة متماسكة منسجمة، تتجاوب كل أسفاره مع بعضها تجاوبًا كاملاً، مع اختلاف كاتبيه من عدة نواح، وتباعد أزمنة كتابته، ومناطق صدوره، وذلك لأن المصدر واحد وهو الله، والكاتب واحد وهو الروح القدس. "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ" (2تيموثاوس 16:3). وأيضًا "تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بطرس 21:1).

لقد كُتب الكتاب المقدس في مدى 1600 سنة من موسى النبي إلى يوحنا الرسول، وكتبه أربعون كاتبًا مختلفو البيئة والثقافة والمركز الاجتماعي. وهو كتاب عجيب في تكوينه، وترتيب أسفاره، فيبدأ بسفر التكوين، نشأة الخليقة، وينتهي  ذلك السفر بمشهد الموت، "مَاتَ يُوسُفُ فَحَنَّطُوهُ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ فِي مِصْرَ" (تكوين 26:50). وذلك بسبب دخول "الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت". والسفر الثاني: "سفر الخروج" يأتي بالعلاج الإلهي للخطية، الفداء "أرى الدم (دم خروف الفصح) وأعبر عنكم". والسفر الثالث: "اللاويين" هو سفر العبادة والتقرب إلى الله، الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا على أساس الفداء. وهكذا... ونجد مثلاً ترتيب مزامير 22، 23، 24- الأول مزمور الصليب، والثاني مزمور الرعاية، والثالث مزمور الملك، ترتيب إلهي عجيب! وإذا نظرنا إلى أول صفحة في الكتاب المقدس التي تحدثنا عن الخليقة: من الذي يعرف كيفية تكوينها وترتيب أيامها إلا الله الذي أوحى بالكتاب المقدس؟ لأن آدم نفسه لم يكن يعرف ما سبقه. وإذا جئنا إلى الأناجيل الأربعة نجد أن لكل إنجيل اتجاهًا خاصًا. فإنجيل متى هو إنجيل الملك ولذلك يذكر نسب الرب حسب الجسد إلى داود. وإنجيل مرقس هو إنجيل الخدمة ولذلك لا يذكر نسب الرب بالمرة. وإنجيل لوقا هو إنجيل النعمة الذي يتحدث عن المسيح كابن الإنسان "نسل المرأة" ولذلك يذكر نسب المسيح إلى آدم. أما إنجيل يوحنا فلا يذكر ولادة المسيح بالمرة لأنه يحدثنا عنه بوصفه ابن الله الأزلي الذي كان عند الله، وكان هو الله، ثم جاء بالجسد في الوقت المعين "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يوحنا 14:1).

والكتاب المقدس كله يسير في طريق مستقيم نحو هدف واحد، وهو إعلان الله ذاته، ومقاصد محبته نحو البشر من الأزل إلى الأبد. وموضوع الكتاب كله "المسيح"، "فَإِنَّ شَهَادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ النُّبُوَّةِ" (رؤيا 10:19). ولا يحتاج الكتاب المقدس إلى دليل على صحته خارج عنه، بل يشهد هو لذاته، فتجد في كل سفر بعض الاقتباسات من الأسفار الأخرى مع أن كتبة الأسفار لم يتلاقوا ولم يتفقوا معًا. وتجد في العهد القديم الذي في يد اليهود (أعداء المسيح إلى الآن) نبوءات عجيبة تمت بحذافيرها في العهد الجديد: مثل مكان ولادة المسيح في بيت لحم، والأسرة التي وُلد منها "بيت داود"، وولادته من عذراء (إشعياء 14:7)، وآلامه الكفارية على الصليب، وثقب يديه ورجليه (انظر الفصل السابق)، ودفنه في قبر رجل غني، إلخ... قال أدولف سافير العالم اليهودي المتنصر أن العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد مثل العلاقة بين المسألة وحلها، أو أساس البيت وجدرانه، مما يدل على أن كتبته جميعًا كانوا مسوقين بروح الله نفسه. نجد مثلاً في تكوين 18:14 شخصًا يظهر فجأة بدون بيان سابق لأبويه أو نسبه أو بداية حياته، "ملكي صادق" ثم نجد ذكره بعد ذلك في مزمور 110. وترينا رسالة العبرانيين سبب إغفال تلك البيانات وهو أنه "مشبّه بابن الله" (عبرانيين 3:7). ولنأخذ مثالاً آخر على دقة كلمات الوحى المقدس: نقرأ في إشعياء 61 أن المسيح مسحه الله ليبشر المساكين ولينادي "بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا"، بينما نقرأ في لوقا 4 أن المسيح قرأ هذا الأصحاح وقال للسامعين: "اليوم قد تم هذا المكتوب". ولكنه أغفل عمدًا ذكر يوم الانتقام لأن وقته لم يأتِ بعد.

ونجد في الكتاب المقدس نبوات عن تاريخ ممالك العالم إلى وقت النهاية، وتاريخ شعب اليهود إلى وقت النهاية وذلك في سفر دانيآل، وتاريخ الكنيسة المسيحية في سفر الرؤيا، وغير ذلك الكثير مما لا يتسع المجال لذكره. وقد تم بعض هذه النبوات بالضبط وبعضها في طريق الإتمام. ونشاهد ذلك بعيوننا في الوقت الحاضر. وقد شهد المسيح له المجد للعهد القديم مقتبسًا عدة آيات منه، كما أوضح لتلاميذه الأمور المختصة بشخصه في أسفار موسى والمزامير والأنبياء.

إنه كتاب واحد متماسك عجيب، هو كتاب الله الذي يخبرك عن مقاصد الأزل قبل خلق العالم، وعما سيحدث في المستقبل إلى الأبد، إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة. اقرأه. لا تحكم عليه قبل أن تقرأه. اقرأه فسيمسك بضميرك ويكشف لك عما في داخلك ويأسر قلبك لأنه حي وفعال، وقد غيّر حياة ملايين من الناس من الشر والنجاسة إلى الطهر والقداسة. بعض الأشخاص قرأوه لينتقدوه فآمنوا به، وسجدوا لله وسلموه قلوبهم. كما ذهب بعض اليهود ليمسكوا المسيح، وسمعوا أقواله، فرجعوا إلى مرسليهم يقولون: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إنسان هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإنسان" (يوحنا 46:7).

ولا يصح اتهام الكتاب المقدس بالتحريف للتخلص من صعوبة فهم حقائق الثالوث الأقدس، ولاهوت المسيح، وموته مصلوبًا[10]. لأن هذه الحقائق متداخلة في كل الكتاب تداخلاً تامًا، لا يمكن فصلها منه، كالخيوط التي يتكون منها نسيج الثوب. إنها سدى الكتاب ولحمته. فإذا نسبت التحريف إلى بعض الأجزاء وحذفتها من الكتاب فستجد ما حذفته في باقي أجزائه. وقد رأينا في الفصل السابق أن صفحة واحدة في أول الكتاب المقدس (تكوين 3) تحتوي على هذه الحقائق كلها.

والآن نقدم بعض الأدلة الواضحة على عدم إمكانية تحريف الكتاب.

العهد القديم: إنه لا يخبرنا عن انتصارات اليهود فقط بل عن هزائمهم أيضًا. ولا يخبرنا عن امتيازاتهم فقط بل عن وصف الله لهم بالرداءة، وغضبه عليهم. كما أنه لا يذكر فضائل الأنبياء فقط بل يكشف أخطاءهم ولا يستر ما ارتكبوه من خطايا كان بعضها شنيعًا. وقد كان العهد القديم موجودًا في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح بمئات السنين، وكانت هناك نسخ منه في الهيكل والمجامع، وكانوا يحافظون عليه بكل دقة وعناية، وكان الأتقياء منهم يواظبون على قراءته كل يوم، وكانوا يعرفون عدد آياته وكلماته، بل وعدد حروفه أيضًا، وعدد المرات التي وردت فيها كل كلمة وكل حرف. هذا فضلاً عما سبقت الإشارة إليه من ورود اقتباسات عديدة منه في العهد الجديد.

العهد الجديد: أقول مبدئيًا إن القرآن يشهد للتوراة والإنجيل، فإذا كان قد حدث تحريف فيهما يكون ذلك بداهة بعد القرن السابع للميلاد، وهذا مستحيل للأسباب الآتية:

1.  انتشر الإنجيل[11] في الشرق والغرب في القرن الأول الميلادي، وتُرجم إلى بعض اللغات، ولم يعترض عليه أحد من اليهود، وكان منهم من عاصر المسيح وسمعه. وكان الإنجيل يُتلى في اجتماعات العبادة، ويحفظ كثيرون أجزاء منه عن ظهر قلب منذ القرن الثاني بشهادة المؤرخين.

2.  هذا وقد اختلف المعلمون المسيحيون في تفسير بعض آيات منه وانقسموا إلى عدة طوائف، ولكن لم يطعن أحد منهم في النص المكتوب، بل بقي إنجيل واحد لكل الطوائف في كل العصور وفي كل بلاد العالم.

3.  وجدت نسخ من الأناجيل وبعض الرسائل مكتوبة في سنة 125م، 180م أي بعد كتابتها الأصلية بفترة وجيزة وهي محفوظة للآن. كما وجدت في بلادنا المصرية النسخة المسماة "الاخميمية" المكتوبة في القرن الثالث وهي محفوظة في لندن. كما وجدت من القرن الرابع نسخ "سانت كاترين" والنسخة "السينائية" (وهي محفوظة بالمتحف البريطاني)، والنسخة الفاتيكانية. ومن القرن الخامس النسخة "الاسكندرانية" والنسخة "الافرائيمية" المحفوظة في باريس. كما أنه توجد كتب دينية منذ القرن الأول بها اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس منها "رسالة كليمندس" سنة 80م وهي محفوظة بمتحف لندن. ومن القرن الثاني كتابات "بوليكاربوس" تتحدث عن صلب المسيح وقيامته وصعوده. وتفسير للإنجيل في ستة مجلدات بقلم "بابياس" وكثير غيرهم. وقد بحث بعض العلماء الآيات الواردة في هذه الكتب فاتضح لهم أنها موجودة في الكتاب المقدس تمامًا. حتى قال بعض العلماء أنه لو فُقدت نسخة الكتاب المقدس الحالية لأمكن جمع معظم آياتها من الكتب السابق ذكرها.

4.  هل يكون الغرض من التحريف إزالة العقد الظاهرية من الكتاب أم إضافتها إليه؟ إن الآيات التي تعلن الثالوث الأقدس، ولاهوت المسيح وناسوته، وموته على الصليب لا تزال موجودة في الكتاب بعهديه القديم والجديد بدون أي محاولة لتفسيرها أو إزالة ما فيها من صعوبة تثير اعتراض غير المؤمنين.

5. تمسك المسيحيون منذ البداءة بهذه الحقائق مع أنها تفوق الإدراك البشري، وقدموا حياتهم للاضطهاد، والعذاب، والموت من أجلها. فهل يعقل أن يكونوا قد فعلوا ذلك في سبيل أقوال قد زوّروها؟[12]

6. توجد بعض اختلافات لفظية في الأناجيل، فلو كان قد حدث فيه تحريف أما كانت أزيلت تلك الاختلافات؟

7. حاول الشيطان إبادة العهد القديم وحرقه قبل المسيح، كما حاول إخفاء العهد الجديد وإبادته في العصور المظلمة، ولكن الله حرص على صون كتابه ليبقى لنا نقيًا كاملاً لننهل منه ماء الحياة كما قال بطرس قديما للمسيح: "يَا رَبُّ إلى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأبديةِ عِنْدَكَ" (يوحنا 68:6).

أما ما تجد في الكتاب من صعوبات لا تستطيع فهمها فصلِّ للرب طالبًا منه أن يكشفها لك، ويريحك من جهتها، فهو "سامع الصلاة".


وإني أطلب من الله بكل قلبي أن يستخدم هذا الكتيب لإراحة أفكار الكثيرين، واقتيادهم إلى معرفة الله، والتجاوب مع محبته الفائقة.

 


الكتاب المقدس

يتألف الكتاب المقدس من جزئين: العهد القديم والعهد الجديد، وهو يعلن فكر الله، وحالة الإنسان، وطريق الخلاص، ودينونة الخطاة، وسعادة المؤمنين. تعاليمه مقدسة، وأحكامه ملزمة، وتاريخه صحيح، ومقرراته ثابتة لا تتغيّر. إقرأه تصر حكيماً، وأطع أوامره تصبح بأمان، وعشه تتقدّس، فهو نور ليرشدك وطعام ليسندك وتعزية لتبهجك.

إنه خارطة المسافر، وعصا السائح، وبوصلة الربان، وسيف الجندي، وميثاق المسيحي. فيه يُسترد الفردوس، وتنفتح السماء، وتُغلق أبواب الجحيم.

يسوع هو موضوعه الأهم، وخيرنا هو مخططه، ومجد الله هو هدفه.

يجب أن يملأ ذاكرتنا، ويسود على قلوبنا، ويسدّد خطانا.

إقرأه على مهل وباستمرار وبروح الصلاة. فهو منجم الكنوز، وفردوس المجد، ونهر السعادة.

لقد أُعطي لك في هذه الحياة، وسيُفتح يوم الدينونة، وسيُذكر إلى الأبد. وهو يتضمن أسمى مسؤولية، ويكافئ أعظم مجهود، وسيدين كل من يعبث بمحتوياته المقدسة.

 

الله يحبك

"لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3).

"ولكن الله بيّن محبته لنا. لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رومية 8:5).

 

الجميع أخطأوا

"إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رومية 23:3).

"كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد" (رومية 10:3).

علاج الله للخطية

"لأن أجرة الخطية هي موت. وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رومية 23:6). "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه" (يوحنا 12:1).

"فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1كورنثوس 3:15-4).

 

كل واحد يمكنه أن يخلص الآن

"هنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه" (رؤيا 20:3). "لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص" (رومية 13:10).

 

إقراري بقبول يسوع المسيح كمخلصي الشخصي

أعترف لله بأنني خاطئ، وأؤمن بأن الرب يسوع المسيح قد مات لأجل خطاياي على الصليب وأُقيم لأجل تبريري، أنا الآن أقبله وأعترف به كمخلصي الشخصي.

الاسم: ____________________________________________

الزمان: ___________________________________________

 

تأكيدات للمؤمن

"لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت" (رومية 9:10).

"كتبت هذا إليكم أنتم المؤمنين باسم ابن الله لكي يعلموا أن لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم ابن الله" (1يوحنا 13:5).

"وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يوحنا 31:20).

صفحة الاستعلام

نرجو أن تقرأ المادة الموضوعة على هذه الصفحة وتضع علامة في الخانة الخاصة بالفقرة التي تعبّر عن حالتك. لطفاً اقطع الصفحة وأرسلها إلينا، وسنعتبر رسالتك خصوصية محترمين ثقتك بنا.

أريد من كل قلبي أن اعرف الحق وأن أعمل به، غير أنه هناك بعض الأسئلة المرفقة ألتمس جوابكم عليها.

أريد من كل قلبي أن أقبل المسيح، بيد أنني أحتاج إلى من يوضّح لي كيف يتم ذلك الأمر.

لقد تبت إلى الله وصليت إليه، وطلبت من الرب يسوع المسيح أن يدخل قلبي؛ لأني أؤمن بأنه أُسلم من أجل خطاياي وأُقيم لأجل تبريري، وأنه فيه لي الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمة الله.

الاسم: ______________________________________________

العنوان: _____________________________________________

__________________________________________________

 

نرجو إرسال القسيمة أو صورة عنها إلى العنوان أدناه

 

Voice of Preaching the Gospel

PO Box 15013

Colorado Springs, CO 80935 - U.S.A.

 


1 من بين هؤلاء العلماء في كل فروع العلم مؤمنون مسيحيون شهدوا أنهم أدركوا عظمة الخالق في ما اكتشفوه من أسرار دقيقة في دراساتهم وسطروا شهاداتهم في كتاب نقله إلى العربية أحد الأدباء، ويختم هذا الكتاب بهذه الترنيمة الحلوة:

يا سيـدي لمـا أرى نجـومك                  وكل ما يدور في الأفلاك

اسمع صوت الرعد في غيومك                  وكلـها قد صـنعت يداك

نفســي تغنـي يـا مخلصي                  ما أعظمـك ما أعظـمك

نفســي تغنـي يـا مخلصي        ما أعظـمك ما أعظـمك

 

2 لا يمكن الاعتراض على استعمال صيغة الجمع بأنها صيغة تعظيم الذات لأن هذه الصيغة لا توجد في اللغة العبرية التي كتبت بها التوراة بدليل أن أقوال الملوك المدونة في التوارة هي بصيغة المفرد "أنا فرعون"، "أنا نبوخذنصر". فضلاً عن ذلك فإن الله العظيم لا يحتاج إلى تعظيم ذاته.

 

3 ونستدل على ذلك أيضًا من القول عن المسيح "صَالَحَكُمُ الآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ" (كولوسي 22:1) فقد كان بلاهوته أزلاً، ثم جاء "في جسم بشريته".

4 قال المسيح لتلاميذه: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهَذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟" (مرقس 8:2). فكان يعرف آراء القلوب. وقال للمرأة السامرية: "كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ" (يوحنا 18:4). ومكتوب أيضًا أن "يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ" (يوحنا 64:6). وقال لنثنائيل: "قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ" (يوحنا 48:1).

5 فقد نام على وسادة في مؤخر السفينة (كإنسان). ولما أيقظوه "فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ﭐسْكُتْ. ابْكَمْ». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ" (مرقس 38:4-39).

6 لعل في المناداة بقداسته ثلاثًا إشارة إلى الأقانيم الثلاثة الذين هم رب واحد. "رب الجنود" أي رب القوات السماوية.

7 أما الطريق الصحيح فهو الذي سلكه هابيل أخوه إذ بالإيمان قدّم لله ذبيحة من أبكار غنمه ومن سمانها، وفي هذا رمز لضرورة الفداء والكفارة كما سنرى.

8 لا بد من الإشارة هنا إلى أن آلام الصليب والموت قد وقعت على طبيعة المسيح الناسوتية لأن اللاهوت منزّه عن الألم والموت كما هو مكتوب: "الذي وحده له عدم الموت" (1تيموثاوس 16:6). ولكن لا تبرح عن بالنا هذه الحقيقة: إن لاهوت المسيح لم يفارق ناسوته لحظة واحدة: حتى وهو معلق على الصليب. وهذا ما يعطي لكفارة المسيح قيمتها اللانهائية غير المحدودة.

9 من الأدلة المادية على موت المسيح بإرادته أنه أسلم روحه في يدي الآب لأنه رأى كل شيء قد كمل وذلك قبل الميعاد الطبيعي لموت المصلوبين بفترة طويلة حتى "َتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعًا" (مرقس 44:15).

10 قال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية المسيح" صفحتي 118 و189: "من بدع القرن العشرين سهولة الاتهام كلما نظروا في تاريخ الأقدمين فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها، وصفات لا يشاهدونها ولا يعقلونها. ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان أو أعاجيب العقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الاتهام. فشتان عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقًا لعقيدته وعمل المحتال الذي يكذب ويعلم أنه يكذب. مثل هذا لا يقدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة. وهيهات أن يوجد من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون. فأقرب القولين إلى التصديق أن الرسل لم يكذبوا فيما رووه، وقالوا أنهم رأوه.

11 نقصد بالإنجيل العهد الجديد كله.

12 قال الأستاذ الراحل عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية المسيح "ص 88- 90 وكتاب "الله" ص 149، 154، 194 ما خلاصته: "إذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح فليس في هذا الاختلاط بدع، ولا دليل قاطع عن الإنكار، لأن الأناجيل تضمنت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، لأن مواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها، والمقارنة بينها وبين آثارها. كما أن مواضع الاتفاق بينها تدل على أنها رسالة واحدة من وحي واحد".  وقال أيضًا: "الصواب أن الأناجيل هي العمدة الوحيدة في كتابة تاريخ السيد المسيح. ومن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي عام أحقّ منها بالاعتماد".

المجموعة: كتب روحية