يُعتبر الأصحاح الثاني من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي دستورًا لخدمة النفوس، إذ فيه يقدّم لنا الرسول بولس العناصر الأساسية التي يجب أن تتوافر في كل شخص يريد أن يحمل مسؤولية الخدمة بإخلاص وأمانة.
ما أكثر الذين يخدمون، ولكن ما أقلّ الثمر. ذلك لأن خدمة الكثيرين تفتقر إلى بعض هذه العناصر التي يقدمها لنا الروح القدس، والتي سندرسها حسبما وردت في ذلك الأصحاح المبارك:

1. خدمة تتماشى مع الحق الإلهي
يقول الكتاب: "لأن وعظنا ليس عن ضلال." (ع 3)، ويقول أيضًا: "بل كما استُحسنّا من الله أن نؤتمن على الإنجيل." (ع4) لقد اؤتمن خادم الرب على رسالة الله الواضحة الصريحة، وعليه أن يقدم تعليمًا نقيًّا، ولبنًا عقليًا عديم الغش، حتى يمكنه أن يربح النفوس إلى المسيح. ما أكثر الذين يقدمون إنجيلاً ناقصًا، أو حقًا مشوّهًا، فتكون النتيجة أن يستمر الخاطئ في خطاياه، والضال في ضلاله، والمرتد في ارتداده.
والحق الإلهي الذي يخلص النفوس هو في منتهى البساطة والوضوح ولا يخرج عن الأمور الآتية: يسوع وحده هو المخلص (أعمال 12:4)، وخلاصه خلاص كامل (عبرانيين 25:7)، وهو يخلص أشقى وأقسى الخطاة (إشعياء 18:1)، وخلاصه خلاص سريع (متى 2:9)، ومن لا يتمتّع بهذا الخلاص يعرّض نفسه لدينونة الله (يوحنا 19:3)، ولا بد من هلاكه في اليوم الأخير (2بطرس 7:3). حقائق في منتهى البساطة والوضوح، وكل رجال الله الذين فتنوا المسكونة واستخدمهم الروح القدس بقوة لتجديد الخطاة لم تخرج عظاتهم عن هذه الحقائق الإلهية.
يؤسفني أن أقول إننا تركنا بساطة الإنجيل وقدمنا للناس أفكار البشر، وحكمة الناس، فخاب مسعانا، وطاش سهمنا، وجلسنا نبكي فشلنا، وقلنا للرب في مرارة: لماذا لم تخلص النفوس؟ مع أن السر يكمن في أننا لم نقدّم يسوع لعالم لا يحتاج إلى أي شخص أو شيء آخر غيره.

2. خدمة قصدها إرضاء الله لا البشر
يقول الرسول: "نتكلم، لا كأننا نرضي الناس بل الله الذي يختبر قلوبنا." (1تسالونيكي 4:2)
قبل أن تتعامل مع الخطاة، ضع في قلبك أن تكون خدمتك مرضية لدى إلهك، وأن تمجّده بها أولاً وأخيرًا، وليكن شعارك دائمًا: "ليس لنا يا رب ليس لنا، لكن لاسمك أعطِ مجدًا، من أجل رحمتك من أجل أمانتك." (مزمور 1:115)
قد تكون الخدمة غير مقبولة لدى البعض لأنها تكشف عيوبهم ونقصاتهم. قد يرى فيها المتكبّر جرحًا لمشاعره وإهانة لكرامته. ولكن الطبيب الماهر لا يبالي بما يسببه مبضعه من آلام لمرضاه إن كان يريد علاجهم.
إن لسان حال الناس باستمرار "كلّمونا بالناعمات"، ولكن لسان حال الله باستمرار أيضًا "عظ، ووبّخ." (تيطس 15:2) أنا لا أنكر أن الحكمة عنصر أساسي من عناصر الخدمة وربح النفوس لأن "رابح النفوس حكيم." (أمثال 30:11) ولكن ليس معنى ذلك أن نسير في ركب البشر ونخدرهم، ونشفي جروحهم على عثم (إرميا 14:6)، وسوف يدرك الخطاة بعد توبتهم ورجوعهم أننا كنا مُخلِصين لهم يوم أن كشفنا خطاياهم، وفضحنا عيوبهم، ويوم كسرنا قلوبهم، وأدمعنا عيونهم، وسيذكرون قول الكتاب: "أمينة هي جروح المحب، وغاشّة هي قبلات العدو." (أمثال 6:27)

3. خدمة غير مغرضة وبلا مقابل
هذا هو الطريق الذي سار فيه سيدنا أثناء خدمته، فلم يطلب مجدًا من الناس، وبالرغم من جهاده الكثير في طريق الخدمة لم يأخذ إلا العرق والدموع والجوع والعطش والصليب! هكذا يلزم أن يكون التلميذ كمعلمه والعبد كسيده.
يقول لنا الرسول في هذا الصدد: "فَإِنَّنَا لَمْ نَكُنْ قَطُّ فِي كَلاَمِ تَمَلُّق كَمَا تَعْلَمُونَ، وَلاَ فِي عِلَّةِ طَمَعٍ. اَللهُ شَاهِدٌ. وَلاَ طَلَبْنَا مَجْدًا مِنَ النَّاسِ، لاَ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْ غَيْرِكُمْ." (1تسالونيكي 5:2-6)
يا أخي الخادم، قبل أن تقوم بالخدمة حاول أن تحلل الدوافع التي تدفعك إليها: هل تبغي من ورائها شهرة ومجدًا أرضيًا، أو ربحًا ماديًا، أم هل تريد بها أن تخفي عيبًا أو خطيئة وتهدئ بها ضميرك الثائر، أم تريد أن تُظهر للآخرين أنك تخدم؟!
الخدمة الناجحة هي التي تنبع من قلب أمين لسيده لا يبغى شيئًا سوى أن يتمجد الله أولاً وأخيرًا، وتسعى فقط لربح النفوس لشخص المسيح؛ ويكفينا هذا الأمر مكافأة من إلهنا لأن الكتاب يقول: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ الْحَقِّ فَرَدَّهُ أَحَدٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئًا عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ، يُخَلِّصُ نَفْسًا مِنَ الْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا." (يعقوب 19:5-20) أي ربح يعادل هذا الربح؟ يقول الكتاب: "والذين ردّوا كثيرين إلى البر (يضيئون) كالكواكب إلى أبد الدهور." (دانيآل 3:12)

4. خدمة محبة
إن الفرق بين الخادم الناجح وغير الناجح ليس في مدى ما لديه من معلومات كتابية، أو مقدرة كلامية، أو قدرة على الإقناع، أو حتى طول فرص الصلاة، بقدر ما هو في المحبة التي تملأ القلب من جهة النفوس التي نخدمها. إن الله لا يخيّب خدمة المحبة أبدًا.
كان الرسول بولس ناجحًا في خدمته لأنه أحب النفوس. اسمعه وهو يتحدث إلى من خدمهم في تسالونيكي فيقول: "بَلْ كُنَّا مُتَرَفِّقِينَ فِي وَسَطِكُمْ كَمَا تُرَبِّي الْمُرْضِعَةُ أَوْلاَدَهَا، هكَذَا إِذْ كُنَّا حَانِّينَ إِلَيْكُمْ، كُنَّا نَرْضَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ، لاَ إِنْجِيلَ اللهِ فَقَطْ بَلْ أَنْفُسَنَا أَيْضًا، لأَنَّكُمْ صِرْتُمْ مَحْبُوبِينَ إِلَيْنَا." (1تسالونيكي 7:2-8)
يا لها من محبة متدفقة، قوية كالموت، وعميقة كالهاوية! ويا لها من أشواق حارة نحو خلاص النفوس! يا أخي، قل للرب: علّمني أن أحبّ النفوس، حينئذ أستطيع أن أخدم خدمة ناجحة.

5. خدمة بطهارة وبلا لوم
هذا أمر بديهي، لأنه إن كنا نبشر الناس بيسوع المخلص فينبغي أن تظهر ثمار خلاصه في حياتنا وإلا كان تبشيرنا لا ينطبق مع الواقع، لأنه كيف نقول إن يسوع يحرر الأسير ونحن أنفسنا مستعبدون! أو كيف نقول إن نعمة الله قادرة على تجديد الحياة بينما نعيش حياتنا العتيقة البعيدة عن نعمة التجديد؟!
يقول الرسول إلى أهل تسالونيكي: "أنتم شهود، والله، كيف بطهارة وببر وبلا لوم كنا بينكم." (1تسالونيكي 10:2) ويقول أيضًا في رومية: "فأنت إذًا الذي تعلّم غيرك، ألست تعلّم نفسك؟ الذي تكرز: أن لا يُسْرَق، أتسرق؟ الَّذِي تَقُولُ: أَنْ لاَ يُزْنَى، أَتَزْنِي؟ الَّذِي تَسْتَكْرِهُ الأَوْثَانَ، أَتَسْرِقُ الْهَيَاكِلَ؟ الَّذِي تَفْتَخِرُ بِالنَّامُوسِ، أَبِتَعَدِّي النَّامُوسِ تُهِينُ اللهَ؟" (رومية 21:2-23)
يا أحبائي، ينبغي أن نتكلم بصراحة: هل حياتنا توافق خدمتنا؟ وهل استطاع الناس أن يلمسوا تطبيقًا عمليًا لما نقدمه لهم من تعاليم واختبارات؟ هذا هو سر فشل الخدمة في الوقت الحاضر – الحياة الملومة غير المقدسة. إنني أفضل أن تكون لنا حياة مباركة دون أن نخدم من أن تكون لنا خدمة بلا حياة، لأننا في هذه الحالة نكون كنحاس يطن أو صنج يرنّ (1كورنثوس 1:13).
كفّ أيها المتعثّر عن خدمتك، فأنت تضيّع وقت الناس، وتقدم لهم مسيحًا مشوّهًا. ادخل إلى مخدعك أولاً، واطلب أن يقدّس الرب حياتك، ويلمع شهادتك، ويملأك بالروح القدس، ثم بعد ذلك اخرج إلى العالم المحتاج في حياة طاهرة مقدسة فيتأثر الناس من حياتك ويقبلوا رسالتك.

6. خدمة تضحية وبذل
بقدر ما تكون الخدمة باذلة ومضحية بقدر ما تصل إلى أهدافها من جهة خلاص النفوس. يحدثنا الرسول عن بعض متاعب الخدمة فيقول: "بَلْ بَعْدَ مَا تَأَلَّمْنَا قَبْلاً وَبُغِيَ عَلَيْنَا كَمَا تَعْلَمُونَ، فِي فِيلِبِّي، جَاهَرْنَا فِي إِلهِنَا أَنْ نُكَلِّمَكُمْ بِإِنْجِيلِ اللهِ، فِي جِهَادٍ كَثِيرٍ." (1تسالونيكي 2:2)
ويقول أيضًا: "ونحن عاملون ليلاً ونهارًا." (1تسالونيكي 9:2) وفي الرسالة الثانية إلى كورنثوس يعرض الرسول قائمة كبيرة من المتاعب والضيقات التي صادفها في طريق الخدمة فيقول: "خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ." (2كورنثوس 24:11-27)
أين نحن من هذه التضحيات الجبارة، وهل كلفتنا خدمتنا تضحية ما، في المال، أو الوقت، أو الصحة، أو الكرامة؟ إن طريق الخدمة شاق وطويل، ومحفوف بالمخاطر، ويتطلب منا أن نبذل الكثير، وأن ننفِق ونُنفَق لأجل المسيح. هو طريق الألم والدموع. هو طريق الأسهار والأصوام. هو طريق البذل والتضحية. وبالرغم من كل شيء فحين ترى ثمار الخدمة دانية القطوف سيهون عليك كل شيء إذ ينطبق عليك ما قاله الكتاب عن الرب يسوع: "مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ."

7. خدمة فردية كما هي خدمة عامة
كان ربنا يسوع يهتم بالفرد كما يهتم بالجماعة، وكما وعظ الآلاف الكثيرة، وعظ امرأة واحدة. وهو بذلك يريد أن يضرب لنا مثلاً عمليًا في مجال العمل الفردي ليبيّن لنا أهميته. والرسول بولس أيضًا في طريق الخدمة لم ينسَ أن يعمل العمل الفردي مع كل واحد في تسالونيكي إذ يقول: "كما تعلمون كيف كنا نعظ كل واحد منكم كالأب لأولاده." (1تسالونيكي 11:2)
لقد قطعنا شوطًا كبيرًا في طريق الخدمة الجماعية، وصار كل واحد منا واعظًا كبيرًا يستطيع أن يصول ويجول على المنبر، ولكن قلما نجد مؤمنًا يسعى وراء شاب زائغ بعيدًا عن الله ليجعل منه موضوع صلاته أمام الله وموضوع اهتمامه، وقلما نجد شابة أو سيدة تهتم بشابة منحرفة أو بعيدة عن الله وتسعى وراءها لتقدم لها المسيح المخلص.
إن نتائج الخدمة الجماعية قد لا تكون مضمونة في أغلب الأحيان، لأن الخادم فيها كصياد يوجه بندقيته إلى مائة عصفور في وقت واحد فتكون النتيجة أنه قد يخطئهم جميعًا. أما الخدمة الفردية فهي غالبًا خدمة ناجحة لأنها موجهة إلى فرد واحد، يمكننا أثناء تبشيره أن نعرف ظروفه، والمشاكل التي تعترض سبيله، ونواحي الضعف في حياته، ووجهة نظره في الدين والدنيا، وبالتالي يمكننا أن نعالج هذه الأمور ونقوده إلى صليب المسيح.
قد تكون الخدمة الفردية خدمة مخفية لا يعلم بها أحد، ولكن سرعان ما تظهر الثمار ممجدة تلك الخدمة، وسرعان ما ينال الخادم جزاءه من الرب. "أبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية." (متى 6:6) ليتنا نعطي اهتمامًا أكثر للخدمة الفردية، فنسير في خطى سيدنا، منكرين لذواتنا.

المجموعة: 2015