إن قضية الصفح والغفران هي من أعقد القضايا التي يواجهها المؤمن في حياته المسيحية لأنها ترتبط بـ "الأنا" من ناحية، وترتهن بمفهوم العدالة من ناحية أخرى، فضلاً عن أن الكبرياء الذاتية تلعب دورًا كبيرًا في مثل هذه المواقف التي يمكن أن تتطوّر في بعض الظروف إلى حدٍّ تبلغ معه مبلغ العداوة التي ترفضها المحبة المسيحية التي يدعو الكتاب المقدس إليها، وتفضي بضراوتها إلى انشقاق الكنيسة وانهيار بنيانها الروحي والاجتماعي.

ولكنني في هذه السطور القلائل أودّ أن أعالج هذا الموضوع، ليس في إطاره العام، وإنما أرغب في اقتصاره على العلاقات التي من شأنها أن تضحي مسرحًا مأساويًّا لكثير من المشكلات بين الراعي وبعض أفراد أعضاء كنيسته، أو بين الرعاة أنفسهم مما يسيء لاسم المسيح في المجتمع المحيط بها.

إن خدمة الرعاية الجادة الناجحة هي من أشقّ الخدمات التي يتحمّلها كل من كرّس حياته وتجنّد لخدمة المسيح في حقل الرعاية. فمطاليبها كثيرة ومعقّدة وتقتضي دعوة إلهية خاصة، بل هي امتياز لا يضاهيه أي امتياز آخر ينعم به الله على من اختارهم ليكونوا أمناءه على هذه الأرض. وقد أدرك بولس الرسول حقيقة هذه المهمة المقدسة، ولخّصها بأسلوب بيًّن في رسالته الأولى إلى تيموثاوس 1:3-7 فأشار إلى ما يتوجَّب أن يتميّز به خادم الله من مزايا وخصائص، هي في جوهرها وطبقًا للمفاهيم البشرية، تبدو مثالية يتعذّر التحلّي بها. ولكن بولس ينظر إليها من خلال منظور إلهي مدعوم بقوة الروح القدس الساكن في المؤمن. ووفقًا لهذه القائمة تتّضح لنا عِظَم المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق الراعي لأنّ عليه، في جميع مواقفه، أن يكون المثال الذي يُقتدى والصورة المنظورة الحية التي تشهد عن عمل الله في المؤمن.
ولعلّ قضية الغفران والصفح عمَّن أساؤا إلينا قد شغلت جزءًا كبيرًا من أفكار تلاميذ المسيح، وحظيت باهتمامهم لوشائج الصلة بين الغفران والمحبة اللذين هما في صميم عملية الفداء التي جاء المسيح من أجلها؛ لذلك لم يتغافل يسوع عنها، بل نراه في بعض حواراته وتعاليمه يومئ إليهما بصورة حازمة وجازمة لأن الغفران ومحو الإساءة كانا نتيحة حتمية لكفارة الصليب. فنقرأ مثلاً قول المسيح في إنجيل متى 21:18-22 جوابًا عن سؤال بطرس: "يا رب، كم مرة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟" لقد ظنّ بطرس في تساؤله هذا أنه يعرب عن سخاء وسموّ أخلاق. ولكنه فوجئ بجواب المسيح الذي لم يكن يتوقّعه قط؛ قال له يسوع: "لا أقول سبع مرات بل إلى سبعين مرة سبع مرات"، أي بلا حدود أو تقرير زمن معيَّن.
وفي سياق الصلاة الربانية التي كثيرًا ما ترددها الطوائف المسيحية، نقول: "واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا." هذه هي الصلاة التي علمنا إياها رب الصفح والغفران وكأنما شاء يسوع التأكيد على صلة طبيعة المحبة بالغفران الإلهي في مواقفنا من الذين يسيئون إلينا.
فالصفح والغفران هما سمتان بارزتان في حياة المؤمن ولا سيما في حياة الراعي. وعلى ضوء هذه الحقيقة يقتضيني البحث أن أُلمع إلى الأمور التالية في حياة الراعي والرعاية:
أولاً، يشرف الراعي في خدمته على رعيّة ذات خلفيات متنوّعة، وقد تُشكل هذه الخلفيات مشكلات متباينة في الكنيسة، وتخلق بعض المنازعات بين الأعضاء أنفسهم أو بين الراعي وبعض الأعضاء؛ وإذا لم يتدارك راعي الكنيسة تطور هذه المشكلات بالاسترشاد بقيادة الروح القدس وكلمة الله فإن العواقب قد تكون وخيمة، وتخلّف آثارًا سيّئة على شهادة الراعي والكنيسة معًا. ولست أشك لحظة أن عددًا كبيرًا من الخدام المكرسين قد وجدوا أنفسهم في مثل هذه الظروف الأليمة التي أضعفت من قوة نشر الكرازة بالإنجيل.
ثانيًا، قد يتعرّض الراعي نفسه للإساءة من بعض أعضاء الكنيسة، وحتى من بعض زملائه من رعاة كنائس أخرى، وقد يجد هذا الراعي نفسه في موقف حرج يملأ قلبه بالحزن والألم ويتطرّق إلى قلبه بعض اليأس. وفي هذه الحال يرى عدوّ النفوس فرصته السانحة لكي يهدّم قلاع الخدمة، ويثير القلاقل في ملكوت الله الأرضي الممثّل بالكنيسة. وليس هناك أي شيء أحبّ على الشيطان من أن يزرع الخصومات في الكنيسة أو بين الكنائس، وإن نجح في ذلك، فهو يعقد الاحتفالات ويقيم الولائم وينعم على أعوانه بالميداليات.
إن النزاعات والخصومات التي تثور في داخل الكنيسة هي أدهى بكثير من كل اضطهادات العالم لأنها تمسّ وحدة جوهر الجسد الواحد. وهنا ألفت أنظار الخدام المبجّلين، إلى أنني لا أتحدّث عن الخلافات العقائدية الكتابية، وإنما أشير إلى النزاعات التي تدور حول أمور سطحية لا علاقة لها بتعليم الكتاب المقدس ولا بالسلوك المسيحي؛ وقد يكون مثارها كلمة صدرت عن فرد أو جماعة ما ممن لهم اتجاهاتهم الخاصة في بعض التدبيرات الكنسية التي لا تتفق مع نظراتهم فتؤدي إلى تراكمات وعراقيل هدَّامة يستغلّها الشيطان بدهائه وأساليبه الملتوية للقضاء على فعالية الخدمة.
من هنا نجد أن الرسول بولس يقول في إرشاداته إلى تيموثاوس إن من ابتغى الأسقفية "يجب أن يكون... صاحيًا، عاقلاً، محتشمًا... صالحًا للتعليم... حليمًا، غير مخاصم." بمعنى آخر، أن يسمو فوق هذه الحزازات، غير متحيّز وأن يغفر لكل من أساء إليه متمثّلاً بالمسيح الذي هتف في أشدّ لحظات آلامه متوسلاً إلى الآب السماوي أن يغفر لصالبيه: "اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون."
أجل، على الخادم المكرّس الذي هو معلّم وواعظ، ومرشد، ومدبّر، ومحافظ على صفاء كلمة الكتاب من كل شائبة، أن يكون أيضًا كما كان المسيح، متمتِّعًا بقلب محبّ غفور، ونفس متسامحة. وحين تهاجمه تجارب الشيطان، وتحدث النزاعات التي تسيء إلى شهادة الكنيسة وإليه شخصيًا، عليه أن يتناسى "أناه" التي هي مصدر كل كبرياء ويسأل نفسه:
"لو كان يسوع مكاني فماذا أفعل؟"
أخوكم في خدمة الرب،
صموئيل عبد الشهيد

المجموعة: 2016