فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ." (فيلبي 5:2-7)
تقف الذات وراء كل انقسام بين جماعة المسيحيين. فهي أساس الخراب والتدهور في الكنائس والجمعيات.

وهي الباعث على التطاحن بين الجماعات، والمهاترات الدينية على صفحات المجلات، حتى وإن كان المظهر الخارجي هو إعلان الحق وخدمة السيد. كما أن الذات هي سبب انحدار البعض من رجال النهضات الموهوبين، الذين ربحوا مئات النفوس للمسيح، لكن بكل أسف لم يتحذروا لتحرّك الذات في داخلهم فدخلهم الغرور، فسقطوا وكان سقوطهم عظيمًا! لذلك يقول الكتاب: "من يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط." (1كورنثوس 12:10) ويتركز الحديث عن إنكار الذات في الأمور الآتية:

أولاً: الصليب أروع مثل لإنكار الذات
يسوع "الذي لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله"، خالق الأكوان، أخلى نفسه، مجرِّدًا نفسه من كل علامات اللاهوت. ولم يظهر للعالم في صورة الله، لأنه لو حدث هذا لاحترق العالم بنار لاهوته، فجاء في شبه الناس. لكن ما يدعو للدهشة هو مقدار إخلائه لنفسه الذي يفوق العقل: "آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب." (فيلبي 7:2-8) لقد احتجب اللاهوت وراء الناسوت، لكن لم يفارق اللاهوت الناسوت لحظة واحدة. وُلد في مذود. عاش فقيرًا. "لم يكن له أين يسند رأسه." غسل أرجل التلاميذ. "لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدِم." وأخيرًا حمل لعنة الصليب، وإهانة الأشرار، ومات موت العار، "إذ صار لعنة من أجلنا." (غلاطية 13:3)

ثانياً: معنى إنكار الذات
1- التحرّر من محبة الذات التي يتميّز بها الناس في هذه الأيام، فهم: "محبين للّذّات دون محبة الله." (2تيموثاوس 4:3) فلا نتشبّه بذلك الغني الغبي الذي قال لنفسه: "يا نفسُ لك خيرات كثيرة، موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي!" (لوقا 19:12) أو بنابال الأحمق الذي قال: "أآخذ خبزي ومائي وذبيحي... وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟" (1صموئيل 11:25)
2- إنكار حقوق الذات متشبهين بسيدنا الذي "ظُلم أم هو فتذلّل." (إشعياء 7:53) فلا نقول: حقي، كرامتي، مصلحتي!
3- السيطرة على النفس: "أيها الأحباء، أطلب إليكم كغرباء ونزلاء، أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس، وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة." (1بطرس 11:2) فكل من لا يسيطر على نفسه في كل شيء وفي كل وقت لم يعرف بعد معنى إنكار الذات.
4- صلب الجسد، أو الإنسان العتيق، أو صلب الذات. "عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليبطل جسد الخطية." (رومية 6:6) "ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات." (غلاطية 24:5) بمعنى أن نموت عن كل شيء عالمي، ونُصلب للعالم، ويُصلب العالم لنا.
5- حمل الصليب. فالمسيح قال لأتباعه: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني." (متى 24:16) وحمل الصليب يعني احتمال الألم نتيجة عمل الخير أو الامتناع عن مخالفة إرادة الله. كما حدث مع موسى الذي "أبى أن يُدعى ابن ابنة فرعون، مفضّلاً بالأحرى أن يُذلّ مع شعب الله على أن يكون له تمتّع وقتيّ بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر." (عبرانيين 24:11-26)
6- عدم إرضاء النفس: "فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا. فليرضِ كل واحد منا قريبه للخير، لأجل البنيان. لأن المسيح أيضًا لم يرضِ نفسه." (رومية 1:15-3)

ثالثاً: كيفية إنكار الذات
شبّه أحدهم الذات بالظلّ والمسيح بالشمس، فقال: "عندما تكون الشمس خلفي يكون ظلي أمامي، وعندما تكون الشمس أمامي يكون ظلي خلفي، وعندما تكون فوقي تمامًا يختفي الظلّ بالكلية." الخاطئ يضع المسيح خلفه فتظهر الذات في حياته أمامه وأمام الآخرين، حياة الأنانية المجسّمة. المؤمن الجسدي يضع المسيح أمامه، لكن لم يملّكه بالتمام على حياته، فتظهر الذات خلفه، ربما لا يرى الذات في تصرفاته، لكن المؤمنين يرون الذات واضحة في أعماله. أما المؤمن الروحي الذي كرّس كل شيء للمسيح، فإن الذات تختفي بالتمام، لأنها صُلبت بينما جلس المسيح على عرش القلب. رغم هذا فالذات لا تتلاشى بالتمام، وعلينا أن نداوم صلبها حتى لا تتحرّك مرة أخرى. ولنعرف جيدًا أننا في قمة الاختبارات الروحية نكون أكثر تعرّضًا لاستيقاظ الذات.

رابعاً: بركات إنكار الذات
قال أحدهم: "في الحياة الروحية الصحيحة نجد الطريق معكوسًا، فإننا نصعد بالنزول، نحيا بالموت، نغلب بالانكسار، نتعلم عندما نصير أغبياء، نمتلئ عندما نفرغ أنفسنا، نصير أقوياء بالعجز المطبق، نخلّص آخرين عندما نضيع أنفسنا، نغني عندما نفتقر، نحارب عندما نقف، ننتصر عندما نُخضع ذواتنا، نحفظ نفوسنا باحتقارها، نضيء عندما تنطفئ أنوار أجسادنا، نربح التاج عندما نحمل الصليب. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبدًا."

خامساً: اختبار الملء وإنكار الذات
إن الذات هي أكبر معطّل لاختبار الملء، لأننا نريد أن يُشار إلينا بالبنان ونصبح في عداد المملوئين. لكن في اللحظة التي فيها نصلب الذات تمامًا ويجلس المسيح على عرش القلب، في نفس هذه اللحظة نمتلئ بروح الله. فهل نصلب الذات الآن لنختبر ملء الروح.

سادساً: الخدمة وإنكار الذات
إن كنا نريد أن نخدم الله بحق علينا أن ننكر ذواتنا، ونضمّ الصوت مع الرسول بولس قائلين: "ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تُلام الخدمة. بل في كل شيء نُظهر أنفسنا كخدام الله: في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام... بمجد وهوان، بصيت رديء وصيت حسن. كمضِلِّين ونحن صادقون. كمجهولين ونحن معروفون."

المجموعة: 2018