Voice of Preaching the Gospel

vopg

حزيران (يونيو) 2009

فوجئت بوالديَّ يوماً وهما يجمعان كلَّ ما لدينا من لباسٍ وثيابٍ وأغراض ثمينة وأوانٍ وأوعية تقليدية ويضعانِها داخلَ الحقائب المتعددة التي كانت قائمة على أرض البيت. رحتُ ألهو وإخوتي الصغار بكل ما وقعت عليه أيدينا آنذاك، وصرتُ أشدُّ حِزامَ الأمتعة المصطفَّة أمامي، فوقعتُ أرضاً من كثرة ما شددْت. ولم أشعرْ عندها إلا بصفعةٍ على وجهي مصدرُها والدي، وما لبثَ أن صرخَ في وجهي ونهرني عن فعل ذلك.


بكيت من قوة الصفعة وقلت محتجاً: لكن إلى أينَ نحن ذاهبون يا أبي؟
قال لي: ”ألا تَرانا منشغلَيْن أنا ووالدتك نجهِّز أنفسنا ونحضِّر أغراضنا استعداداً للسفر؟“
"وهل نحن مسافرون يا أبي؟" قلت بعفَوية وبشيء من الحسرة. "أليست هذه القُنيطرة بيتََنا ومكانَ إقامتنا؟"
 ”كفاكَ أسئلة يا سعيد، إيه... لقد نفذَ صبري منك. هيا اذهب والعب خارجاً في الدار مع باقي إخوتك. اذهب من وجهي."
شعرتُ بضيق في داخلي وفاضت عيناي بالدموع، وشَرعتُ أتساءل بيني وبين نفسي:
إلى أين نحنُ مسافرون؟
ولماذا نتركُ بيتنا الذي أحبُّه وأصدقائي الذين ألعب معهم وأدرسُ إلى جانبهم،  ونذهب إلى مكانٍ بعيد لا نعرفه؟
ولم تمضِ أسابيعُ قليلة حتى وجدتُ نفسي وقد أضحيتُ جزءاً من هذه الأمتعة المعدَّة للانطلاق، وكذا شعر باقي إخوتي وأخواتي. وهكذا انتقلتُ إلى بلدٍ آخر، لا بل قارةٍ أخرى تختلف تماماً عن بلدي أنا، وقارتي الإفريقية التي نشأتُ فيها. ولما استفقتُ من نوميَ العميق خِلْتُ أني أحلُم. رأيتُ أولاداً يركضونَ في حيٍّ مكتظٍ بعائلاتٍ مهاجرة مثلي. والأكثرُ عجباً هو أنَّهم جميعاً كانوا يتكلمون المغربيَّة ويصلُّون كما يصلي والدي. أما المدرسة التي ذهبْتُ إليها فكانت تحوي الكثيرَ من أبناء جنسي. وهناك بدأتُ أتعلم اللغة الفرنسية شيئاً فشيئاً، وبدأت أتواصلُ مع أترابي الجدد باللغتين العربية والفرنسية. وبالرغم من حنيني إلى وطني الأم إلا أننَّي بدأت أتأقلمُ مع أصدقائي في المدرسة الذين لم يكونوا يختلفون عني لا في الشكل ولا في العقيدة. ونوعاً ما أحببتُ المحيط الذي انتقاه والداي للعيش فيه، لأنه لم يكنْ يختلف كثيراً عن محيطي السابق. ولمَّا كبرتُ وأصبحت مراهقاً في الصفوف الإعدادية أُخذْتُ يوماً بالدرس الذي قدَّمه الأستاذ في الصف. وكان يدور حولَ نظريةِ النشوء والارتقاء أو نظرية التطور. أسرعتُ يومَها إلى البيت لكي أخبرَ أبي بما تعلَّمته من معلومةٍ هامة وقيِّمة.
فقلت له: أتعلم يا أبي ماذا قال الأستاذ اليوم في الصف؟
أجاب: وماذا قال؟
قال: إنَّنا جميعا نَنْحَدِرُ من القِرَدَة. أي أنَّ أصلي وأصَلَك كلينا قِرْد.
لم أكد أنتهي من هذه الجملة حتى صرخ والدي في وجهي بقسوته المعهودة وقال: يا حُمار، يا غبي وهل تصدِّق ذلك؟
انخرطتُ بعد ذلك مع شلَّةٍ من الأولاد المشاغبين في المدرسة وتبنَّيت طرقهم الشريرة، كما حذوتُ حذوّهُم في كلِّ ما ارتكبوه ضدَّ التلاميذ الآخرين. وصرتُ قاسياً عنيفاً أعملُ الشر دونَ رادع، وأعتدي على الطلاب الآخرين، وأتاجرُ بالمخدرات والمشروب. ولم يكن يهمُّني أحدٌ من المعلمين أو الأساتذة. ولم أستفقْ يوماً إلا وأنا في مكتب المدير وهو يُلقي عليَّ قرارَ طردي من المدرسة بسبب أعمال الشغب التي سبَّبتها. وعندما عدتُ إلى البيت عنَّفني والدي على سلوكي المُخزي وضرَبني ضرباً مبرِّحا. لكنني بقيت على هذه الشاكلة، وتكررت حادثة طردي عدة مرات حتى ذاعَ صيتي بأنَّني الولدُ الشقي. ولم يقتصرِ الأمرُ على المدرسة فحسب، بل كنت أتشاجر أيضاً مع أولاد الجيران، وأسبِّب المشاكل الكثيرة في حيِّنا. ومرةً تشاجرت مع بعض الشباب، فشتموني. ردَّيت لهم الصاعَ صاعين. وعبثاً حاول الكبار التدخل لكي يصرفونا عن بعض. وتطور الشجار إلى اشتباك بالأيدي ظلَّ متواصلاً حتى وصل الأهلُ وحَمِيَ وطيسُ المعركة بين الكبار. فهجم أحدُ الآباء على أمي التي كانت تدافع عني، وأرداها جريحة في الأرض. صرخت من الفزع، وارتعبت وبكيت وقلت في نفسي: ألا يكفيها ضرب أبي المستمر لها؟ حزنت جداً لأنني كنت أنا السبب. ولما صحوتُ من الصدمة رأيت سيارة الإسعاف وهي تقلُّها إلى المستشفى والدم يسيل من وجهها. وهناك بقيَتْ عدة أسابيع في ألم شديد ملقاةً على ظهرها لا تستطيع الحراك. وشكرت ربي يوم تعافَت ورجعتْ إلى البيت سالمة.
وبعد تلك الحادثة الأليمة بأيام قليلة، دُقَّ بابُ بيتنا، وفوجئنا بسيدتين فرنسيتين تأتيان لزيارة أمي وهن يحملنَ معهن طبَقاً من الطعام. فاستقبلتهما أختي وتحدثَّتا معها مطوَّلاً. أما أمي فشكرتهما على اهتمامهما بها، وبعيادتها في مرضها ووعدتهما بأن تحضر لهما طبقا من "الكسكس" (coscus) اللذيذ حالما تتعافى. أما أنا فاستغربت هذه البادرة اللطيفة من أناس فرنسيين تجاهنا نحن العرب. وقبل الانصراف قدَّمت هاتان السيدتان الإنجيل لأختي الكبيرة ودَعتاها إلى كنيستهما. وفورَ خروجهما بدأتْ أختي بقراءة الإنجيل خفيةً عن الأهل، وصارت تذهب إلى الكنيسة الفرنسية، وهناك حدثت المعجزة. نعم، لقد أضحت أختي مسيحية. وكان الفرح والسرور يشعَّان من وجهها. ولمَّا علمتْ أمي بذلك هجمتَ على أختي وضربَتْها بقسوة شديدة، وضرَبْتُها أنا أيضاً وكذا فعلَ والدي. فكيف ترتدُّ عن إيمانها وتعتنق الديانة المسيحية وتصبح كافرة؟ نحن الذين نشأنا على تعاليم ديننا، ورضعناه مع حليب أمهاتنا، كيف تسمحُ لنفسها بذلك. وبعد فترة من الزمن كلَّفتني أمي بمراقبة أختي عن كثب. فذهبتُ أتجسَّس عليها في الكنيسة التي تحضُرها بالخفية. وضعتُ نظَّارات الشمس، لأخفي من حقيقةِ وجهي، وما أن شرعتُ بفتح باب الكنيسة حتى انتابني شعور غريب، فقلت للحال: أستغفر الله العظيم. فهذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها كنيسة المسيحيين. وما أن أطللت برأسي حتى شاهدت جمعاً غفيراً من الفرنسيين وهم يرفعون أيديهم وينشدون أناشيد بهيجة والفرح يغمرهم. تعجبت للتو مما رأيت. وما أن انتهوا من الصلاة حتى توجهَتْ نحوي بعض السيدات المتقدمات في السن ورحْنَ يلمسن شعري الأجعد مبدياتٍ إعجابَهن به. أما أنا فصرت أتصبَّب عرَقاً من كثرة الخجل. تكررت زياراتي إلى تلك الكنيسة وأحسستُ بنفسي مشدوداً إلى هؤلاء الفرنسيين المؤمنين. وصرتُ أتساءل: ما هو سرُّ فرحهم، وما سرُّ سلامهم؟ إنَّ وجوههم تطفر بُشراً. وتمنَّيت لو أنَّني أعيش بسلام مثلهم. وعند رجوعي إلى البيت سرقتُ الإنجيل من غرفة أختي ورحت أقرأ به ليلاً. ووصلت إلى المكان الذي يوصي به الله شعبه في القديم بكيفية معاملة الغريب في وسطهم، وتأثرتُ جداً. ”وَلاَ تَضْطَهِدِ الْغَرِيبَ وَلاَ تُضَايِقْهُ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ“ (خروج 21:22). وأيضاً: ”فَأَحِبُّوا الْغَرِيبَ لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ“ (تثنية 19:10). وقلت في سرِّي: إذن، هذا هو السبب وراءَ معاملتهم الحَسنى لوالدتي يوم أصيبت. وهذا هو السبب الذي دفعَ السيدتين لزيارتنا نحن العرب الغرباء. وأُخِذتُ بتعليم الله هذا. وازداد اشتياقي لمعرفة المزيد. وحين قرأت ما قاله السيد المسيح في موعظته على الجبل دهشتُ أكثر. ”وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا“.
وقرأت أيضاً: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى 39:5 و44).
قلت في نفسي: ما أسمَى هذا التعليم، وكيف لي أن أطبِّقَه في حياتي؟ حياتي أنا المليئة بالعنف والقسوة سواء في البيت أو في المدرسة، في الحي، ومع الجيران. عندها ركعتُ وصلَّيت وطلبت من الله أن يغفرَ لي كلَّ آثامي وخطاياي. فملأَ يسوع المسيح قلبي بمحبته العجيبة التي لا توصف. وتحوَّلت حياتي من شقاءٍ إلى شفاءْ. وصرتُ أحضرُ الكنيسة بالسرِّ. إلى أنْ كشفتني والدتي. فتعرَّضت منها للضرب والإهانة الكبيرة وقالت: لقد أرسلتُكَ لكي تتتبَّع أخبارَ أختك، وليس لكي تصبحَ مثلها مسيحياً!! 
وفي يومٍ من الأيام ومن كثرةِ التبكيت الذي حصل في داخلي، توجَّهتُ إلى إحدى السيدات الفرنسيات وأعطيتها حفنةً من النقود كنت قد سرقتها منها قبلاً. فأصابتْها الدهشة وتعجبت قائلة: أيمكنُ لشخص عربي أن يعطيني نقوداً؟ ومنذُ ذلك الوقت عاد السلامُ إلى قلبي. لكننَّي ظللت أحقد على أبي حقداً تحوَّل مع الأيام إلى مرارةٍ وبغضة. لم أستطع أن أغفر لوالدي لضرْبَه أمي. فمنذ أن وعيت على هذه  الدنيا وأنا أراهُ يضربها ويشتمها بوحشية بالغة. إلى أن أتى اليوم الذي مرِض فيه مرضاً شديداً وخطيراً نقل على أثره إلى المستشفى، فذهبت لزيارته.
وهناك لم أتمالك نفسي فانفجرت في وجهه صارخاً: إنني أكرهك، أجل أكرهُك. كلُّ عرقٍ فيَّ ينبض ويقول لك أكرهُك يا أبي. لكنَّ المسيح الذي آمنت به قد غيَّر قلبيَ الحاقد عليك، وعلَّمني أن أسامحَك وأغفر لك وأحبَّك أيضاً.
وارتميتُ بين أحضانه باكياً. ولدهشتي الكبرى، وبالرغم من ضعفه الشديد إلا أنَّه ضمَّني بين ذراعيه الهزيلتين، وكان يشهق ويبكي هو الآخر كالطفل الصغير.
وفاهَ  قائلاً: وأنا أيضاً يا ابني آمنت بالمسيح (عيسى) مثلك، وندمت على خطاياي وأفعالي المشينة.
وفي تلك اللحظة ولأول مرة في حياتي أدركتُ وفهمت معنى أبوَّةَ الله للإنسانِ المؤمن. ولأول مرة في حياتي أيضاً ضممت والدي إلى صدري والدموع تنهمرُ بغزارة على خدَّينا معاً وشكرتُ الله من أعماق قلبي على عمقِ محبته وفيضِ نعمته وكثرةِ رحمته عليَّ وعلى عائلتي التي حظِيَت كلّها بهذا الإيمان الثمين. وأنا الآن أشهدُ عن نعمة الله المتفاضلة في حياتي عن طريق أعمالي الكوميديَّة، إذ وهَبني الله نفحة ًعذبة من الطَّرافة والدَّعابة. وكثيرون يتعرَّفون على المسيح من خلال هذه الوسيلة. فَلَه أقدِّم جزيلَ شكري وامتناني.
أخوكم في المسيح: سعيد

 

فوجئت بوالديَّ يوماً وهما يجمعان كلَّ ما لدينا من لباسٍ وثيابٍ وأغراض ثمينة وأوانٍ وأوعية تقليدية ويضعانِها داخلَ الحقائب المتعددة التي كانت قائمة على أرض البيت. رحتُ ألهو وإخوتي الصغار بكل ما وقعت عليه أيدينا آنذاك، وصرتُ أشدُّ حِزامَ الأمتعة المصطفَّة أمامي، فوقعتُ أرضاً من كثرة ما شددْت. ولم أشعرْ عندها إلا بصفعةٍ على وجهي مصدرُها والدي، وما لبثَ أن صرخَ في وجهي ونهرني عن فعل ذلك.

بكيت من قوة الصفعة وقلت محتجاً: لكن إلى أينَ نحن ذاهبون يا أبي؟

قال لي: ”ألا تَرانا منشغلَيْن أنا ووالدتك نجهِّز أنفسنا ونحضِّر أغراضنا استعداداً للسفر؟“

"وهل نحن مسافرون يا أبي؟" قلت بعفَوية وبشيء من الحسرة. "أليست هذه القُنيطرة بيتََنا ومكانَ إقامتنا؟"

 ”كفاكَ أسئلة يا سعيد، إيه... لقد نفذَ صبري منك. هيا اذهب والعب خارجاً في الدار مع باقي إخوتك. اذهب من وجهي."

شعرتُ بضيق في داخلي وفاضت عيناي بالدموع، وشَرعتُ أتساءل بيني وبين نفسي:

إلى أين نحنُ مسافرون؟

ولماذا نتركُ بيتنا الذي أحبُّه وأصدقائي الذين ألعب معهم وأدرسُ إلى جانبهم،  ونذهب إلى مكانٍ بعيد لا نعرفه؟

ولم تمضِ أسابيعُ قليلة حتى وجدتُ نفسي وقد أضحيتُ جزءاً من هذه الأمتعة المعدَّة للانطلاق، وكذا شعر باقي إخوتي وأخواتي. وهكذا انتقلتُ إلى بلدٍ آخر، لا بل قارةٍ أخرى تختلف تماماً عن بلدي أنا، وقارتي الإفريقية التي نشأتُ فيها. ولما استفقتُ من نوميَ العميق خِلْتُ أني أحلُم. رأيتُ أولاداً يركضونَ في حيٍّ مكتظٍ بعائلاتٍ مهاجرة مثلي. والأكثرُ عجباً هو أنَّهم جميعاً كانوا يتكلمون المغربيَّة ويصلُّون كما يصلي والدي. أما المدرسة التي ذهبْتُ إليها فكانت تحوي الكثيرَ من أبناء جنسي. وهناك بدأتُ أتعلم اللغة الفرنسية شيئاً فشيئاً، وبدأت أتواصلُ مع أترابي الجدد باللغتين العربية والفرنسية. وبالرغم من حنيني إلى وطني الأم إلا أننَّي بدأت أتأقلمُ مع أصدقائي في المدرسة الذين لم يكونوا يختلفون عني لا في الشكل ولا في العقيدة. ونوعاً ما أحببتُ المحيط الذي انتقاه والداي للعيش فيه، لأنه لم يكنْ يختلف كثيراً عن محيطي السابق. ولمَّا كبرتُ وأصبحت مراهقاً في الصفوف الإعدادية أُخذْتُ يوماً بالدرس الذي قدَّمه الأستاذ في الصف. وكان يدور حولَ نظريةِ النشوء والارتقاء أو نظرية التطور. أسرعتُ يومَها إلى البيت لكي أخبرَ أبي بما تعلَّمته من معلومةٍ هامة وقيِّمة.

فقلت له: أتعلم يا أبي ماذا قال الأستاذ اليوم في الصف؟

أجاب: وماذا قال؟

قال: إنَّنا جميعا نَنْحَدِرُ من القِرَدَة. أي أنَّ أصلي وأصَلَك كلينا قِرْد.

لم أكد أنتهي من هذه الجملة حتى صرخ والدي في وجهي بقسوته المعهودة وقال: يا حُمار، يا غبي وهل تصدِّق ذلك؟

انخرطتُ بعد ذلك مع شلَّةٍ من الأولاد المشاغبين في المدرسة وتبنَّيت طرقهم الشريرة، كما حذوتُ حذوّهُم في كلِّ ما ارتكبوه ضدَّ التلاميذ الآخرين. وصرتُ قاسياً عنيفاً أعملُ الشر دونَ رادع، وأعتدي على الطلاب الآخرين، وأتاجرُ بالمخدرات والمشروب. ولم يكن يهمُّني أحدٌ من المعلمين أو الأساتذة. ولم أستفقْ يوماً إلا وأنا في مكتب المدير وهو يُلقي عليَّ قرارَ طردي من المدرسة بسبب أعمال الشغب التي سبَّبتها. وعندما عدتُ إلى البيت عنَّفني والدي على سلوكي المُخزي وضرَبني ضرباً مبرِّحا. لكنني بقيت على هذه الشاكلة، وتكررت حادثة طردي عدة مرات حتى ذاعَ صيتي بأنَّني الولدُ الشقي. ولم يقتصرِ الأمرُ على المدرسة فحسب، بل كنت أتشاجر أيضاً مع أولاد الجيران، وأسبِّب المشاكل الكثيرة في حيِّنا. ومرةً تشاجرت مع بعض الشباب، فشتموني. ردَّيت لهم الصاعَ صاعين. وعبثاً حاول الكبار التدخل لكي يصرفونا عن بعض. وتطور الشجار إلى اشتباك بالأيدي ظلَّ متواصلاً حتى وصل الأهلُ وحَمِيَ وطيسُ المعركة بين الكبار. فهجم أحدُ الآباء على أمي التي كانت تدافع عني، وأرداها جريحة في الأرض. صرخت من الفزع، وارتعبت وبكيت وقلت في نفسي: ألا يكفيها ضرب أبي المستمر لها؟ حزنت جداً لأنني كنت أنا السبب. ولما صحوتُ من الصدمة رأيت سيارة الإسعاف وهي تقلُّها إلى المستشفى والدم يسيل من وجهها. وهناك بقيَتْ عدة أسابيع في ألم شديد ملقاةً على ظهرها لا تستطيع الحراك. وشكرت ربي يوم تعافَت ورجعتْ إلى البيت سالمة.

وبعد تلك الحادثة الأليمة بأيام قليلة، دُقَّ بابُ بيتنا، وفوجئنا بسيدتين فرنسيتين تأتيان لزيارة أمي وهن يحملنَ معهن طبَقاً من الطعام. فاستقبلتهما أختي وتحدثَّتا معها مطوَّلاً. أما أمي فشكرتهما على اهتمامهما بها، وبعيادتها في مرضها ووعدتهما بأن تحضر لهما طبقا من "الكسكس" (coscus) اللذيذ حالما تتعافى. أما أنا فاستغربت هذه البادرة اللطيفة من أناس فرنسيين تجاهنا نحن العرب. وقبل الانصراف قدَّمت هاتان السيدتان الإنجيل لأختي الكبيرة ودَعتاها إلى كنيستهما. وفورَ خروجهما بدأتْ أختي بقراءة الإنجيل خفيةً عن الأهل، وصارت تذهب إلى الكنيسة الفرنسية، وهناك حدثت المعجزة. نعم، لقد أضحت أختي مسيحية. وكان الفرح والسرور يشعَّان من وجهها. ولمَّا علمتْ أمي بذلك هجمتَ على أختي وضربَتْها بقسوة شديدة، وضرَبْتُها أنا أيضاً وكذا فعلَ والدي. فكيف ترتدُّ عن إيمانها وتعتنق الديانة المسيحية وتصبح كافرة؟ نحن الذين نشأنا على تعاليم ديننا، ورضعناه مع حليب أمهاتنا، كيف تسمحُ لنفسها بذلك. وبعد فترة من الزمن كلَّفتني أمي بمراقبة أختي عن كثب. فذهبتُ أتجسَّس عليها في الكنيسة التي تحضُرها بالخفية. وضعتُ نظَّارات الشمس، لأخفي من حقيقةِ وجهي، وما أن شرعتُ بفتح باب الكنيسة حتى انتابني شعور غريب، فقلت للحال: أستغفر الله العظيم. فهذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها كنيسة المسيحيين. وما أن أطللت برأسي حتى شاهدت جمعاً غفيراً من الفرنسيين وهم يرفعون أيديهم وينشدون أناشيد بهيجة والفرح يغمرهم. تعجبت للتو مما رأيت. وما أن انتهوا من الصلاة حتى توجهَتْ نحوي بعض السيدات المتقدمات في السن ورحْنَ يلمسن شعري الأجعد مبدياتٍ إعجابَهن به. أما أنا فصرت أتصبَّب عرَقاً من كثرة الخجل. تكررت زياراتي إلى تلك الكنيسة وأحسستُ بنفسي مشدوداً إلى هؤلاء الفرنسيين المؤمنين. وصرتُ أتساءل: ما هو سرُّ فرحهم، وما سرُّ سلامهم؟ إنَّ وجوههم تطفر بُشراً. وتمنَّيت لو أنَّني أعيش بسلام مثلهم. وعند رجوعي إلى البيت سرقتُ الإنجيل من غرفة أختي ورحت أقرأ به ليلاً. ووصلت إلى المكان الذي يوصي به الله شعبه في القديم بكيفية معاملة الغريب في وسطهم، وتأثرتُ جداً. ”وَلاَ تَضْطَهِدِ الْغَرِيبَ وَلاَ تُضَايِقْهُ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ“ (خروج 21:22). وأيضاً: ”فَأَحِبُّوا الْغَرِيبَ لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ“ (تثنية 19:10). وقلت في سرِّي: إذن، هذا هو السبب وراءَ معاملتهم الحَسنى لوالدتي يوم أصيبت. وهذا هو السبب الذي دفعَ السيدتين لزيارتنا نحن العرب الغرباء. وأُخِذتُ بتعليم الله هذا. وازداد اشتياقي لمعرفة المزيد. وحين قرأت ما قاله السيد المسيح في موعظته على الجبل دهشتُ أكثر. ”وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا“.

وقرأت أيضاً: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى 39:5 و44).

قلت في نفسي: ما أسمَى هذا التعليم، وكيف لي أن أطبِّقَه في حياتي؟ حياتي أنا المليئة بالعنف والقسوة سواء في البيت أو في المدرسة، في الحي، ومع الجيران. عندها ركعتُ وصلَّيت وطلبت من الله أن يغفرَ لي كلَّ آثامي وخطاياي. فملأَ يسوع المسيح قلبي بمحبته العجيبة التي لا توصف. وتحوَّلت حياتي من شقاءٍ إلى شفاءْ. وصرتُ أحضرُ الكنيسة بالسرِّ. إلى أنْ كشفتني والدتي. فتعرَّضت منها للضرب والإهانة الكبيرة وقالت: لقد أرسلتُكَ لكي تتتبَّع أخبارَ أختك، وليس لكي تصبحَ مثلها مسيحياً!! 

وفي يومٍ من الأيام ومن كثرةِ التبكيت الذي حصل في داخلي، توجَّهتُ إلى إحدى السيدات الفرنسيات وأعطيتها حفنةً من النقود كنت قد سرقتها منها قبلاً. فأصابتْها الدهشة وتعجبت قائلة: أيمكنُ لشخص عربي أن يعطيني نقوداً؟ ومنذُ ذلك الوقت عاد السلامُ إلى قلبي. لكننَّي ظللت أحقد على أبي حقداً تحوَّل مع الأيام إلى مرارةٍ وبغضة. لم أستطع أن أغفر لوالدي لضرْبَه أمي. فمنذ أن وعيت على هذه  الدنيا وأنا أراهُ يضربها ويشتمها بوحشية بالغة. إلى أن أتى اليوم الذي مرِض فيه مرضاً شديداً وخطيراً نقل على أثره إلى المستشفى، فذهبت لزيارته.

وهناك لم أتمالك نفسي فانفجرت في وجهه صارخاً: إنني أكرهك، أجل أكرهُك. كلُّ عرقٍ فيَّ ينبض ويقول لك أكرهُك يا أبي. لكنَّ المسيح الذي آمنت به قد غيَّر قلبيَ الحاقد عليك، وعلَّمني أن أسامحَك وأغفر لك وأحبَّك أيضاً.

وارتميتُ بين أحضانه باكياً. ولدهشتي الكبرى، وبالرغم من ضعفه الشديد إلا أنَّه ضمَّني بين ذراعيه الهزيلتين، وكان يشهق ويبكي هو الآخر كالطفل الصغير.

وفاهَ  قائلاً: وأنا أيضاً يا ابني آمنت بالمسيح (عيسى) مثلك، وندمت على خطاياي وأفعالي المشينة.

وفي تلك اللحظة ولأول مرة في حياتي أدركتُ وفهمت معنى أبوَّةَ الله للإنسانِ المؤمن. ولأول مرة في حياتي أيضاً ضممت والدي إلى صدري والدموع تنهمرُ بغزارة على خدَّينا معاً وشكرتُ الله من أعماق قلبي على عمقِ محبته وفيضِ نعمته وكثرةِ رحمته عليَّ وعلى عائلتي التي حظِيَت كلّها بهذا الإيمان الثمين. وأنا الآن أشهدُ عن نعمة الله المتفاضلة في حياتي عن طريق أعمالي الكوميديَّة، إذ وهَبني الله نفحة ًعذبة من الطَّرافة والدَّعابة. وكثيرون يتعرَّفون على المسيح من خلال هذه الوسيلة. فَلَه أقدِّم جزيلَ شكري وامتناني.

أخوكم في المسيح: سعيد

المجموعة: 200906

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

101 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10554803