Voice of Preaching the Gospel

vopg

آب (أغسطس) 2006

وقف ”بسام“ على قبر زوجته ”سعاد“ صامتاً تتناوحه أفكار رهيبة حاول أن يكتمها في صدره فلا تنمّ عنها شفتاه. كان صمته المرعب أشبه بصمت الموت، وتألّقت في عينيه ومضات حقد لاهبة كأنها ألسنة براكين. ظلّت عيناه المشتعلتان منصبّتين على الضريح الرخامي. وكأنه في صمته يناجي جثمان زوجته الراقد بهدوء في ظلال أشجار الصنوبر.

 

نعم، نعم، هذا هو قبرها ومثواها الأخير. إنها لا تستحقّ أن تموت في ريعان شبابها، وفي ربيع عمرها.

لقد تزوّجا منذ أقلّ من سنتين، بعد أن تخرّجا من الجامعة، وابتدأا معاً ببنيان عشهما الصغير بعرق المحبة والتضحية. أحسّا آنئذٍ أن الدنيا كلها كانت مهرجان من الأفراح وأن الحياة كانت تنبض بالبهجة والحبور. ولكن... فجأة هبّت عاصفة رهيبة طوّحت بكل آمالهما، وقوّضت كل ما شيّداه من صروح الرجاء في مستقبل سعيد. آه، لا يمكنه أن ينسى ذلك اليوم الذي أصابت فيه زوجته رصاصة قاتلة قضت عليها   قبل أن تصل إليها سيارة الإسعاف بلحظات قصار. لقد فارقت الحياة واسمه يتردّد على لسانها. بماذا كانت تفكّر آنئذٍ؟ ماذا كانت تريد أن تقول له؟ أية وصية كانت تبغي أن تستودعه إياها؟ إنه لا يدري! بل إنه لن يدري أبداً. لقد مضت ”سعاد“ إلى غير رجعة، أما هو فقد بقي بعدها يعاني من جحيم الفاجعة، هذه المأساة التي ألمّت به وحطّمت كيانه. كيف يمكنه أن يعيش من دون ”سعاد“؟ كانت النور الذي يضيء حياته ويبدّد عنها الظلمات. وصوتها.. أجل صوتها الذي ما زال يتردّد في مسامعه، كان أعذب من عزيف الكمان. لشدّ ما كان يطيب له وهو منزوٍ في ركن مكتبه ليدبّج مقالاً أو يعدّ بحثاً، أن يستمع إلى صوتها الناعم الدافئ يتسلّل إليه من الغرفة المجاورة وهي ترجّع إحدى أغنياتهما المحبّبة. كانت تعتريه نشوة رائعة تدغدغ أعصابه، فترتسم على شفتيه ابتسامة مفعمة بالطمأنينة والسلام. أما الآن فقد تلاشى هذا الصوت مع الرياح، حملته العاصفة معها وتركته وحيداً يجترّ آلامه في وحدة أشدّ قسوة من الموت نفسه...

بغتة رفع رأسه، وحدّق إلى الفضاء البعيد، واشتعلت عيناه كجمرتين لاهبتين! إنه يعرف قاتل زوجته ولا بدّ أن ينتقم منه. صحيح أنه لم يتعمّد إطلاق الرصاص عليها، ولكنه في أثناء معركته مع أعداء عصابته لم يأخذ بعين الاعتبار عشرات الأبرياء المارين في الطريق الراجعين من أعمالهم إلى منازلهم. إن التحريات التي قام بها، ”والإخباريات“ التي وصلته من رجال الأمن أكّدت له أن القاتل هو ”أبو الجلد“ رئيس عصابة ”الناقمين“. كم يودّ لو يقبض على عنقه في هذه اللحظة ويضغط عليها بأصابع من فولاذ ليخنق فيه كل نسمة حياة. لا بُدّ أن تتاح له الفرصة عن قريب...

وضع ”بسّام“ باقة الورد إلى جوار قبر ”سعاد“، وتمتم بصلاة خافتة، ثم ناجى نفسه:

-  لن ترين وجهي ثانية قبل أن أنتقم لكِ من ”أبو الجلد“، أو ألحق بك إلى الأبدية.

واستدار بخطى مثقلة بالهموم، وغادر المقبرة إلى الطريق العام.

وانقضت بضعة أيام و”بسّام“ يرسم الخطط للقضاء على ”أبو الجلد“؛ ولكن كل محاولاته باءت بالإخفاق، ”فأبو الجلد“ محاط دائماً بأفراد عصابته، كما أن رجال الأمن يترصّدون حركاته...

وذات يوم، في ما كان ”بسّام“ مسترخياً على أريكته يشاهد أحد البرامج التلفزيونية، تسرّب النعاس إلى جفنتيه فاستغرق في نوم عميق. وانقضت أكثر من ساعة قبل أن يستيقظ من سباته؛ وما لبث أن سمع صوت المتكلم على شاشة التلفزيون يقول:

-  هل تدرون ما هي أصعب خطوة يقوم بها الإنسان؟ قد لا تصدقونني إن قلت لكم إنها خطوة الغفران. فكل النوازع البشرية والعواطف الكامنة في أعماق القلب البشري تنزع نحو الانتقام إذا ما أصابها مكروه. قد تكون على حق في حقدك على عدوك أو الانتقام منه. هذا هو الحافز البشري، ولكن ما هو أصعب، وأعظم هو أن تقف ضدّ التيار، وتتغلّب على هذه النوازع القتّالة. لا تظن أنك قادر على تحويل أو صياغة هذه النوازع صياغة جديدة بقوتك الذاتية. إنك في أشدّ الحاجة إلى قوة عليا، إلى...

كانت أعصاب ”بسّام“ قد تنبّهت وكأن مسّاً كهربائياً أصابها، غير أن بسمة ساخرة علت شفتيه وهتف:

-  يا للعبارات المثالية، لو كان الواعظ قد فقد زوجته كما فقدتها لكان أوّل من يسارع إلى الانتقام من عدوّه.. أين العدالة الإلهية؟

وكأنما كان الواعظ يقرأ خواطره فتابع كلامه:

-  لو كان الله يحاسبنا طبقاً لأعمالنا لحلّت بنا دينونته منذ زمن بعيد. ولكن الله بمحبّته يغفر ذنوب أشدّ أعدائه، بل إنه غفر ذنوب أولئك الذين صلبوا ابنه وأذاقوه كل صنوف العذاب. نعم، غفر لهم ذنوبهم؛ ألم يصرخ المسيح على الصليب قائلاً: ”اغفر لهم يا أبتاه... ؟“ قد تقول: إن المسيح يستطيع أن يتغلّب على الحقد بطبيعته الإلهية. أما أنا فإنني مجرّد بشر ولست ذات طبيعة إلهية. أقول لك: تذكّر إستفانوس الشهيد فقد اتّخذ نفس الموقف الذي اتخذه سيده...

تلاشت الابتسامة الساخرة عن شفتي ”بسّام“، وأحسّ بغصّة تختنق في حلقه؛ إن الحقد يتأكله، ومقتل زوجته قد أفضى إلى انهيار حياته الزوجية. لم يبقَ له بعد أي شيء في الحياة... ولكن،

ولأوّل مرة في حياته تساءل: ماذا تريد مني ”سعاد“ أن أفعل؟ عندما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة ارتعشت على شفتيها كلمات مبهمة لم يتبيّن أحد معناها. ربما كانت تطلب منه أن يتعزّى وأن يبدأ حياته من جديد. إن كان هذا صحيحاً، فقد يكون ما سمعه منذ لحظات من الواعظ هو المدخل إلى بداية عهد جديد في حياته.

-  آه، يا ”سعاد“، إنني أحسّ بك وكأنكِ تقفين إلى جانبي في هذه اللحظة؛ لكم أُكبـِرُ فيك حكمتك ومحبتك. إنني لست أشكّ لحظة واحدة أنكِ تريدين مني أن أتحرّر من حقدي ومقتي! إن أعماقي مكبلة بالغضب تحدوني رغبة صارخة للانتقام، فكيف يذهب دمك هدراً؟

وخيّل إليه أنه يسمع همساً رقيقاً يناجيه:

-  هل الانتقام يعيدني إلى الحياة؟ ألا تكون بذلك قد ارتكبت جريمة يعاقب عليها القانون؟ أين محبتك لي؟

فغمغم بصوت خافت:

-  إنني أريد أن أنتقم لأنني أحبكِ وقد أخذوكِ مني.

-  الانتقام ليس محبّة. لماذا لا تحمل في نفسك أطيب ذكرياتنا فتكون لك مَعلماً في الطريق؟ لماذا تريد أن تعكّر صفاء حبنا بالحقد والانتقام؟

نهض ”بسّام“ عن الأريكة واقترب من النافذة المطلّة على حديقة المدينة العامة. ظلت عيناه معلقتين بالفضاء الفسيح، ثم فجأة أخذت العبرات تنحدر من عينيه وبنبرة شبه صامتة قال:

-  اغفر ”لأبي جلد“ أيها المصلوب واملأني بمحبتك وتعزيتك.

المجموعة: آب August 2006

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

348 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10575491