Voice of Preaching the Gospel

vopg

حزيران (يونيو) 2006

أنا ضائع في الريح!

أهيم على وجه الغمر أبحث عن ذاتي، عن الإنسان الحقيقي الذي كان يوماً ينمو ويترعرع في داخلي. لقد فقدته منذ زمن بعيد... في عالم الضلال، في قفر بلقع لا معالم له. حملت مشعلي وانطلقت في دياجير الظلام، أجوس في الوديان، وأصعد إلى قمم الجبال، وأنطلق إلى الجزر البعيدة أطلب ما فقدته منذ براءتي الأولى.

 

نعم، أنا ضائع في الريح!

ولست أدري كيف حدث هذا، فلقد كنت في طفولتي أتغذّى على قصص كان والديّ يسردانها عليّ فأجد فيها متعة لا نظير لها، وعندما ابتدأت أعي بعض ما يدور حولي سألت والدتي ذات يوم:

-    هذه القصص التي تروينها لي، هل هي قصص حقيقية؟

فأجابتني وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة رائعة:

-    نعم يا بنيّ، هي قصص حقيقية.

-    من أين أتيت بها، بل أين وجدتها؟

-    على صفحات الكتاب المقدس.

-    الكتاب المقدس؟!

-    نعم، يا بنيّ، الكتاب المقدس الذي أعلن فيه الله عن نفسه. ولكن أخبرني أية قصة أعجبتك أكثر من سواها؟

فكّرت ملياً، وأخذت أستعرض في ذهني طائفة القصص التي كانت تحدّثني بها قبل أن يرنّق الكرى عيني، فهتفت:

-    هناك قصتان أعجبتاني أكثر من سواهما يا أمي:

-    ما هما يا بنيّ؟

-    قصة الخروف الضال، وقصة الابن الذي هجر بيت أبيه.

-    ما الذي أعجبك بهاتين القصتين؟

ومن غير تردّد أجبت:

-    اهتمام الراعي بالخروف الضال، ومحبة الأب الذي رضي أن يردّ إليه ابنه العاصي.

ابتسمت والدتي آنئذ وقالت لي بصوت حنون:

-    صدقت، يا بنيّ، إن هذا الاهتمام وتلك المحبة تشيران إلى اهتمام الله بنا ومحبته لنا على الرغم من تمرّدنا عليه وعصيانه. إنه دائماً يفتح لنا ذراعيه عندما نتوب عن خطايانا ونرجع إليه.

جرى هذا الحديث منذ زمن بعيدٍ كانت البراءة فيه تخالج قلبي والطيبة تغمر صدري.

أما الآن فأنا ضائع في الريح!

لقد تناوشتني أشواك الحياة، والتهمت عقلي الفلسفات الحديثة، وغزت رأسي الشكوك حتى أخذت تدريجياً أتنكّر لكل ما لقنني إياه والداي. لقد انقلب عالمي رأساً على عقب، فانصبّ اهتمامي على السياسة، واستغرقتني أحداث العالم بكل ما فيها من فواجع، وموت، وحروب، وقتل، ودمار، وزلازل، وبراكين. أصبحت دنياي تدور حول المأساة البشرية، ورحت أتساءل: إن كان لهذا الكون خالق رحوم محب، فلماذا يسمح لمثل هذه الفواجع أن تحلّ بمخلوقاته؟ أين هو، هذا المتربّع على عرشه، لماذا لا يمنع الحروب والجرائم على اختلاف أنواعها، وبعضها يُرتكب باسم الدين، بل باسم الله. ألا يغار هذا الإله على اسمه؟ ومع أن قصة الابن الضال كانت تتراءى لي بين الفينة والفينة فإنها اتخذت في ذهني صورة خرافية يتعذّر عليّ قبولها. لقد علّمني والدي الصلاة الربانية وكنت ألتذّ جداً عندما أردّد "أبانا الذي في السموات...". كان لكلمة "أبانا" رنين موسيقي عذب في أذني، أما الآن فإنني أتساءل: أين هذا "الأبانا"؟ لماذا لا يظهر على مسرح الوجود ويضع حداً للشرور والآثام التي تدمي القلوب؟ حقاً أنا ضائع في الريح!

لكم أودّ أن أرجع إلى براءتي الأولى، إلى تلك الطفولة الطاهرة التي كانت تؤمن من غير شك، وتقبل "كلمة الوحي" من غير تردّد. ولكن هيهات أن أرجع القهقرى، فذلك العهد قد مضى. التهمته السنين الغابرة، هجرتني طفولتي إلى غير رجعة. إنني أريد أن أتعلّق بما هو يقين... أتمسّك بما ينقذني من حالة الضياع التي أنا عليها.

لقد كتبت كثيراً في الصحف والمجلات، ونشرت بعض المؤلفات، وطار لي صيت في الأوساط الأدبية والسياسية؛ ولفترة ما تناسيت همومي، وتجاهلت هذه الخواطر السوداء التي كانت تراودني. كنت كمن تناول مخدّراً ففقد إحساسه بالزمان والمكان فاعتراه ارتياح مزيّف، شعور كاذب من الطمأنينة، ولكن ما لبثت أن أفقت من تأثير هذا المخدّر، وعدت أقاسي من الخواطر الرهيبة التي راحت تهاجمني من جديد. ولشدّ ما راودتني فكرة الانتحار في إبان تلك اليقظات الرهيبة، ولكن لسبب ما لم أجرؤ على إنهاء حياتي.

أجل، أنا ضائع في الريح!

وها أنا الآن أجلس في حجرتي أسجّل هذه الخواطر، ولعلّها تكون آخر مرة أخطّ فيها مثل هذه الكلمات. أنا أدرك أن عالمي قد أصابه الجنون، فليس هناك راعٍ ينتظرني أو يبحث عني. وليس من أب يهديني السبيل في لحظة من أحلك لحظات حياتي. إنني أبحث عن قبس من أمل عن منارة تومض في غمار العاصفة التي أخوضها. في لحظة بدت لي الشهرة التي حظيت بها، والثروة التي وفرتها على الرغم من صغر سني، والمعارف التي حصلتها وكأنها هباء، وغمغمت:

-    إن متّ الآن، فهذه كلها لمن تكون؟

في صمت السكينة المثقلة بالعذاب، والشعور بالعدمية، خُيِّل إليّ أن صوتاً خفيّاً راح يهمس في أذني:

-   "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال...".

أحسست بقشعريرة تسري ببدني، وشرع الصوت يعلو حتى ملأ عليّ كياني، وضجّ في رأسي كزئير الرعود:

-    تعالوا إليّ يا جميع...

تماثل لي أن عالمي القاتم قد أخذ بالتفسّخ، وأن بصيص ضوء أخذ يلتمع، فرحت أحدّق إليه كالمسحور وكأن دنياي قد تحوّلت إلى وجود جديد..

هل أكون قد بدأت خطوة الألف ميل في الرجوع إلى بيت أبي؟

المجموعة: 200606

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

297 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10579076