Voice of Preaching the Gospel

vopg

تشرين الأول (أكتوبر) 2008

وأطلقتُ لخياليَ العَنان، وحلمتُ أنَّني هناكَ أواسي المريض علَّه يُشفى، وأُسعِفُ الجريحَ عساهُ يستريح. وحلمتُ أنَّني أُقيتُ الجائعَ وأمُنُّ عليه بلقمةٍ تسدُّ رمقَه، وأَسقي العطشانَ ماءً يشفي به غليلَ ظمأه.

وحلمتُ أيضاً أنَّني أصبُّ خمراً وزيتاً على إصاباتِ الجنود في ساحة القتال. فمرضايَ الذين انتقيْتُهم في خيالي لم يكونوا يوماً من الناس العاديين، بل هم من أولئكَ الذين يقاتلون في أرضِ المعركة، ويدافعون من أجلِ كرامة الأوطان والحفاظِ على الإنسان. وحلمتُ أنَّني سأكونُ في ساحة المعركة المشتعلة ولسوف أنقِذُ ضابطاً جريحاً وأنقلُه إلى مستشفىً قريب لكي أسعفَهُ. وكذلك حلمتُ أنَّني سأقعُ في حبِّه يوماً. وبعدها نتزوج ونبني بيتاً جميلاً.
كان خيالي عندئذ واسعاً ورحباً، وحُلمي هذا ثمرةٌ واحدة من ثمراتِ أحلام اليقظة. نعم، وخططتُ هذه الأحلامَ البريئةَ بقلمٍ سحريٍ على صفحاتِ ذاكرتي، وأودعتُها هناك في مكانٍ أمين بعيداً عن عبَثِ الأيدي. لقد تصدَّر حُلميَ الأكبر هذا، الصفحةَ الأولى في هذا المجلَّد المنسوجِ من خيوطٍ رقيقةٍ في بحر خيالي، كتبتُه بواسطة قلمٍ وهمي وسجَّلته في زاويةٍ خاصة من حنايا نفسي الداخلية.
تذكَّرتُ هذا الحلمَ الرقيق مؤخراً بينما كنتُ أستمع إلى أحدِ الأطباء وهو يتكلم عن حنايا النفسِ البشرية، هناكَ في إحدى قاعاتِ فندقٍ فخم. أثارتْ كلماتُه تلك أحاسيسي ومشاعري إذ قال: بأنَّنا نحنُ المؤمنين مدعوونَ حسبَ قصدِه هو، أي قصد الله، وليس حسبَ قصدِنا نحن. نحن مدعوون لكي نتمِّمَ مشيئةَ الأعلى والعالي فوقَ كلِّ عالي، مدعوون لكي نعملَ ما أَمرَنا به هو، وليس ما نحلُم به نحن أو ما نريده نحنُ لأنفسِنا. ورجعتُ بذاكرتي مرةً أخرى إلى أيام حداثتي، ولكن هذه المرة لم تكن محطَّتي هي خياليَ الجامح ، بل على العكس، هي واقعي الذي ترعرعتُ فيه وتربَّيتُ عليه. وتذكَّرتُ معلماتي الفاضلات اللاتي أتينَ من بلادٍ بعيدة كبريطانيا وأستراليا ونيوزيلاندا، هذا بالإضافة إلى المعلمات المحليات. تذكرتُ كيف كنَّ يجمعنَنَا نحن الطالبات كلَّ يوم في دار الصلاة، ويعلِّمْنَنا من الكتاب المقدس. تذكَّرتُ كيف ضحَّينَ بطيبِ العيش ولذَّةِ الحياة في أوطانهن، من أجلي أنا، ومن أجل طالباتٍ كثيرات مثلي. أتينَ من هناك تاركاتٍ بيوتَهن وأهلَهن، وأحبابَهن من أجل تحقيق دعوتِهن الإلهية. أجل أتين حتى يزرعن كلمةَ الله المقدسة في قلبِ كلِّ صغيرةٍ وكبيرة ويعلِّمنَ في المدرسة الإنجيلية الوطنية للبنات في دمشق، سوريا. كان هذا هدفَ حياتهِن وكانتْ هذه هي دعوتُهن العليا من ربِّ السماء وباريها.  نالتْ معلماتي المرسلات (الخادمات) إعجابي وتقديري منذُ الصف الأول وحتى التاسع في تلكَ المدرسة المثالية. لكنَّ لباسَهن ويا للأسف، لم يكنْ يستهويني يوماً. بل على العكس، كنتُ أمقتُه، إذ بدا  لباسُهن بسيطاً للغاية، وشعرُهن معقوداً بربطةٍ في قمةِ الرأس. وكنت أقول في سرِّي: ما أعجبَ لباسَهن لا بل وما أغربَ أحذيتَهن. حتى لأحسستُ أنَّهنَّ يعشنَ في مكانٍ هو أقربُ للديرٍ منه إلى المدرسة. ونذرتُ يوم ذاك في سرِّي بأنه من المستحيل عليَّ أن أصبحَ مرسلةً أو خادمة مثلَهن. ومرةً أخرى أخطأت. إذ لم أكن أعلم يوماً أننَّي سوفَ أحذو حذوَهنَّ ليس في الِّلباس والمظهر، بل  في تلبيتي لدعوةٍ هي أسمى وأرقى وأعلى وأعمق من المظهر، دعوةٍ تمس حنايا الإنسان وكيانَه الروحي. لأنَّ ما نقشوهُ في فكري من علومٍ ومعلوماتٍ سامية عن محبة الله، وما لمستُه بهنَّ من محبة وتضحية وتفانٍ، بقي محفوراً في أعماقي إلى هذا اليوم. وكلُّ ما علَّموني إياهُ في الصِّغَر باتَ محورَ حياتي أنا وهدفَها الأوحد عندما  فتح ليَ الربُّ باباً لم يستطعْ أحدٌ أن يغلقّهُ،   ومهَّد أمامي طريقاً واضحاً وصريحاً لكي أسيرَ عليه أنا وزوجي في العام 1983.  وقفت آنذاك مذهولةً من عُظمِ هذا الحدث إذ اخْتُرنا لكي نخدمَ مَنْ أحببنا، شعبَنا وأمَّتَنا، يوم تعيَّنّا من قِبَل إذاعة حول العالم (ترانس ورلد راديو) لكي نذهب إلى مونتي كارلو ونخدم في إذاعة حول العالم من خلال إذاعة مونتي كارلو، وننشر الأخبار السارة  لكثيرينَ عبرَ الأثير. يومها أحسستُ أنا بصغري أمامَ حجمِ هذه المهمة. وثارتُ فيَّ أحاسيسُ مرهفة جداً وسألتُ ربي وإلهي ساعتئذٍ وقلتُ: مَنْ أنا حتى تختارَني وتدعوني هذه الدعوة المقدسة؟ وفوجئتُ أنا بنفسي وبِردَّة فعلي وانفعالي الشديدين. وإذ ذاك، انحدرَتْ دموعي بغزارةٍ على خَدّيَّ، لم أستطعْ معها أن أتكلَّمَ أو أقولَ شيئاً. وسألتُ نفسي: أهو بكاءُ الفرح؟ أم بكاءُ الشعورِ بحجمِ المسؤولية؟ وحضَرَتْني في تلكَ اللحظةِ بالذاتْ كلماتُ ترنيمةٍ للأخ جوزيف حبيبي، وهو قريبٌ لزوجي، كان قد كتبَها، ورنَّمها لنا في بيروت. فرفعتُها صلاةً حرَّى من أعماق قلبي إلى قلب الآب وقلت:
فَخذْ حياتي يا مليكي
قُدْها كما تشاءُ... يا رفيقي
فهذه صنيعةُ يديكَ
وهيَ منكَ وإليكَ
عندها حدثَ لي شيءٌ غريب، وانتابني فرحٌ عجيب لا يوصفُ، وأحسستُ كأنّني أطيرُ وأحلِّق في العلاء بينَ الأرضِ والسماء.
وعُدْتُ وتذكَّرتُ أيضاً أنَّه عندما كنَّا صغاراً، كان صوتيَ المرتفع يسبِّبُ لي مشاكلَ كثيرة مع إخوتي وأخواتي، قريباتي وصديقاتي. وكانَ البعضُ منهم يطلب مني أن أخِفضَ صوتي لأنَّه يصمُّ آذانَهم ونحن نلعبُ معاً. هذا ما كانوا يقولونه! ولمَّا حاولتُ شرحَ موقفي بأنَّ لا ذنبَ لي وإنما هي الجينات الموروثة عن عمتي، كانوا يضحكون ويصهصهون ولم يريدوا أن يفهموا. والآن، صار صوتي المزعجُ في الصِّغر، ومحطُّ الانتقاد في العائلة، قد سبق الله وعيَّنه ليُستخدم بحسَب قصدِه هو. فلقد اختاره ربي وإلهي ليشكِّلَهُ ويرسلَهُ في مهمةٍ هامة ألا وهي إيصالُ البشارة عبرَ موجات الأثير. والآن كلمةُ الحياة تحملُها الأمواج إلى قلب كلِّ متعب مثقل، إلى قلب كلِّ محتاج، إلى حنايا كل مريض، فتتكلم إليه وتؤنسُه في وحدتِه، وتُذهِبُ عنه وحشتَه.  هذه الكلمة تحملها أناملُ الريح إلى بيتِ كلِّ إنسان لتمنَحَه سلاماً واطمئناناً وراحةً ما بعدها راحة.
ولما استفقت من بحر ذكرياتي، كان الطبيب المتكلمُ في ذلك الفندق الفخم، يختم كلامَه ويقول: يا ليتَنا جميعاً نحسُّ في قلوبِنا مع الناس كما أحسَّ بولس الرسول الذي دعاهُ الله وهو على طريق دمشق ليتمِّم قصدَه الأعلى من خلاله. ليتنا نشعر مع الآخرين الذين حولَنا، نشعر بأنَّات نفوسهم وحشرجاتها، نشعر معهم بكياننا الداخلي، بأحشائنا، ووجدانِنا كله. قال الرسول في رسالته إلى الكنيسة في رومية: "إن لي حزناً ووجعاً في قلبي لا ينقطع. فإني كنت أودّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد“ (رومية 3:9).
فهل لديك وجعٌ في قلبك من أجل الآخَر يا صديقي؟ وهل تتحرَّك أحشاؤك على الآخر؟ وهل تطلب أن يستخدمَك الله من أجلِ الآخر. أم أنَّك غيرُ مكترثٍ بهذا الآخر الذي مات الربُّ يسوع من أجله؟
يسوع هو مثالُنا الأعلى،  الذي تمَّم قصدَ الآب، ولبَّى الدعوةَ وتجسَّد وتنازَل لكي  يعيشَ في أوساطِ الآخرين، يحسُّ بهم، ويذرفُ الدمعَ لأجلِهم، ويحزن لحزنهم، ويفرحُ لفرحهم. لقد تنازلَ من عليائِه لكي يكونَ إلى جانب الإنسان، وينقذَه من الموت المحقَّق ويهبَه خلاصاً وحياةً وسلاماً فائقاً. فهل لديكَ قلبٌ مثلُ قلبِه الحنون، الرؤوف، المتواضع، تسدِّدُ حاجات الآخر، وتسمع لصوت الآخر، وتمنح الآخر اهتمامَك الحقيقي؟ هذه هي الدعوةُ، فهل نلبِّها؟ دعوةُ الله لكي نعملَ بحسبِ قصدِه هو وليس بحسبِ قصدنا نحن ومشيئتِنا نحن.
وعُدْتُ مرةً أخرى لحلمي وأنا بعدُ صغيرة، وشكرْتُ اللهَّ لأنَّه استخدمني أنا عبدتَه لا لأكونَ بلسماً لجراحِ المرضى في الحروب وفي ساحاتِ القتال، بل بلسماً لكلِّ جائعٍ وفقيرٍ ومسكينٍ وعريان إلى معرفة القدوس. فهل لا زلتَ تحلمُ يا قارئي وتسعى من أجل تحقيق هذا الحُلم؟ حريٌّ بك أن تضع أحلامَك وطموحاتِك وأشواقَك بين يدي الله لأنَّك إذا فعلتَ فلسوفَ يُجري اللهُ قصدَه في حياتِك. وما عليكَ إلاَّ أن تتجاوبَ ودعوتَهُ الأسمى لكَ وتكونَ آنيةً طيِّعة بين يديه. فهو الفخاري الأعظم الذي سيعجنُكَ ويشكلِّكَ لكي تصيرَ مشابهاً صورةَ يسوعَ المسيح ابنِه المحبوب.

المجموعة: 200810

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

152 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10554834