Voice of Preaching the Gospel

vopg

أيار May 2010

لعل ما يطالعنا به سفر أيوب هو أصدق تعبير عن شمولية الأدب الديني. الانقلاب المفجع الذي طرأ على حياة أيوب وعلى نمط معيشته، هو أروع أُنموذج لتقلّبات الدهر وخداعه. تأمل أيوب في شريط حياته بعد أن حلت به النكبات المتعاقبة فلم يجد فيه ما يغضب الله أو يثير عليه سخطه فتساءل: لماذا نزلت بي الويلات؟ لماذا ابتلاني الله بهذه الكوارث؟ أيجوز لتقي مثلي أن تنصب عليه نقمة السماء والأرض؟ أي ذنب جنيته؟

ألتحوُّل في تساؤله يدعو إلى التوقف، والتفكير في وضعه المأساوي مدعاة للحيرة. لقد تكشّف الحوار الدائر بينه وبين رفاقه الأربعة عن وجود صدع في فهم مقاصد الله.
حياة أيوب المترفة جعلته يظن في نفسه الكمال. صحيح أن الله قال عن أيوب أنه "رَجُلٌ كَامِلٌ صَالِحٌ يَتَّقِي الله وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ". ولكن كمال أيوب وصلاحه وتقواه كان بالمقارنة مع بقية الشعب وليس حسب مستوى المقاييس الإلهية المطلقة. كان أيوب يخاف الله: هذا دين؛ ويحيد عن الشر: هذا فضيلة أخلاقية. ولعله إذ ظن في نفسه الكمال انتابه الكبرياء او البر الذاتي. هذا موضوع آخر؛ ولكن الحقيقة التي لا مهرب منها أن وجه الحياة الآخر، أي صورة الألم أدمت أيوب على غير توقّع. منطقة أُخرى لم تكن في حيّز وجوده. أظن بنفسه المناعة ضد طوارق الحدثان؟ ربما، لكن الغصة الشجية تحجّرت في حلقه. لم يعد أيوب في منأى عن المحن. هو واحد من الناس يقسو عليه الدهر وتلذعه سياط المصائب. وفي لحظات ضعفه تناسى عدالة الله، وأصبح الله في ظل مأساته ضبابياً لا معالم له، وتحولت حياة أيوب إلى ساحة معركة بين الخير والشر. صحيح أن خاتمة أيوب كانت خيراً من بدايته. ولكن الفاجعة في أمواله، ومواشيه، وبنيه، وبناته، ومن ثَمَّ الداء العياء الذي تفشّى في بدنه ليست من الفواجع العابرة. إن روعة قصة أيوب هي في شمولية حدثها الذي يختصر بذاته حكاية الإنسان في صيغة حياة.
أما شخصيات هذه القصة فهي مزيج من العالم الميتافيزيقي والوجود الإنساني. تستهل القصة فصلها الأول في عالم الماورائيات حيث يعقد الله مجلساً مع ملائكته يتسلل إليه الشيطان. لا يوحي المشهد أن الشيطان هو الذي أثار قضية أيوب، إنما الله هو الذي خاطب الشيطان وسأله عن أيوب. إن وجود الشيطان في مجلس الله مشكلة غامضة يتعذر تعليلها. ولكن وجود الشيطان في هذا المجلس يضفي عليه نكهة فنية خاصة تبعث على التشويق. إن الوحي الإلهي، لسبب من الأسباب، يلفِّع هذا الموقف بالغموض وكل ما نعرفه أن أيوب كان مدار حديث المجلس. وإذ شرع الله يُطري أيوب تدخَّل الشيطان قائلاً:
”أَمَجَّانَاً يَتَّقِي أَيُّوبُ أَلله؟ أَلَمْ تُسَيَّجْ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا يَمْلِكُ؟ لَقَدْ بَارَكْتَ كُلَّ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ فَمَلأَتْ مَوَاشِيهِ الأَرْضَ.
”وَلَكِنْ حَالَمَا تَمُدُّ يَدَكَ وَتَمَسُّ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ“.
كانت هذه مؤامرة الشيطان على الله وعلى أيوب. فهو في سياق كلامه على أيوب أخذ يُعرِّض بالله الذي كلأ أيوب برعايته، فلولا هذه الرعاية لجدَّف أيوب على الله. إذاً، أيوب، في نظر الشيطان، يعبد الله استغلالا لبركاته. كانت هذه هي دعوى الشيطان على أيوب. وهناك في العالم الماورائي تمّ الاتفاق على امتحان صدق ولاء أيوب للرب. طبعا، لم يكن في وسع الشيطان أن يؤذي أيوب من غير موافقة الله وإذنه. وهكذا وجد أيوب نفسه عرضة للامتحان من غير أن يدرك أن هناك قوى خفية ماورائية قد حبكت عقدة مصيره، وأن كل ما حدث له كان أمرا مقضياً.
أما الفصول الأُخرى فهي تدور على مسرح آخر هو مسرح العالم المنظور. فكل ما تقرر في عالم الماورائيات بشأن أيوب لا بد أن يتحقق في حياته. إن العالم المنظور هو مسرح نشاطات الشيطان والميدان العملي لاختباراته وتجاربه، لهذا وجد في أيوب الضحية المثالية التي ينفّذ فيها مآربه. ولم يلبث أيوب أن فقد كل شيء من ممتلكات، ومال، وذرية، وعافية، ولم يبق لديه سوى زوجته التي ناءت تحت ثقل النكبات التي أخنت كاهلها. أن سفر أيوب لا يحدثنا كثيرا عن أحزان هذه الأُم التي حرمها الدهر من فلذات كبدها وأصبحت تعيش أيضا في فقر مدقع. ولكن يمكننا أن نتحسس مدى آلامها من خلال ما نقرأه بين السطور. فهي أم ثكلى تتأكّلها الحسرات، وتنهش في قلبها الأحزان؛ وفي لحظة ثورة غضب جامحة تقول لزوجها: أَمَا زِلْتَ مُعْتَصِمَاً بِكَمَالِكَ؟ جَدِّفْ عَلَى اللهِ وَمُتْ. كان هذا الموقف السلبي نتيجة لشعورها بالأسى، والسخط، والثورة، وإحساسها بالعجز أمام ظلم الأقدار.
وعندما أقبل أصدقاؤه الأربعة لتعزيته، وبعد فترة صمت طويلة، شرعوا يحثونه على الاعتراف بذنوبه واستغفار ربه لأن ما أصابه - في رأيهم - كان عقابا له من الله على إثم جناه. لم يكن في وسع هؤلاء الأصدقاء أن يدركوا أن ما حل بأيوب من نوائب كانت قد تقرّرت في مسرح العالم الماورائي، وأن أيوب كان بريئاً لم يخطئ إلى الله. ويحتد الحوار بين أيوب ورفاقه ويتشعّب؛ وهو يعكس في جملته نظرات فلسفية شرقية تؤمن بالقدر والتسليم. ومع ذلك، يحاول أيوب أن يبرهن عن براءته بل وأن يحتج على الله. وفي أثناء ذلك يأخذ في تعداد مآثره وما أسداه من خدمات جلّى لمجتمعه ثم ينوّه بفضائله وكأنه يتحدى رفاقه الذين اتّهموه بارتكاب المعاصي ضد الله. وفي خلال ذلك يطرح أيوب طائفة من الأسئلة العويصة على الله وكأنه يجابهه ويطالبه بالإجابة. كل ذلك صدر عنه بتأثير من وعيه الذاتي المتمحور حول "أناه". فجأة يحدث انعطاف مباغت لم يكن أيوب يتوقعه. يقاطع الله أيوب ويخاطبه من العاصفة ويأمره بالصمت، وبدلا من أن يتجاوب الرب مع طلب أيوب، يقول له:
”أُشْدُدْ حَقَوَيْكَ كَرَجُلٍ لأَسْأَلَكَ فَتُجِيبَنِي“.
ثم يلقي عليه مجموعة من الطروحات تجعل أيوب يتصاغر أمام الرب ويكتشف تفاهته إذ تخطت رؤياه "أناه" المحدودة إلى رحابة الشمولية. وامام عظمة الله، وحكمته، ودرايته، يتضع أيوب ويطلب الصفح من خالقه ويعترف بجهله وتقصيره.
في هذا الفصل الأخير يتم الاندماج بين عالمين، ويحدث اللقاء بين الخالق والمخلوق. فيه يتجلّى الكشف الحقيقي للموقف الإلهي من الأنسان، وتكتمل الحلقة التي كان يفتقد إليها أيوب.

 

(من كتاب ”الأدب الكتابي في معركة الحياة“ للمؤلف)

المجموعة: 201005

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

164 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10475890