Voice of Preaching the Gospel

vopg

كانون الأول December 2010

شرعت أجراس الكنائس تقرع من بعيد تؤذن بحلول يوم جديد، فيه يحتفل الناس بعيد الميلاد، وغرقت المدينة في أحضان الأضواء الملوّنة وضجيج السيارات التي أخذت تمزّق هيمنة السكينة التي سادتها لفترة قصيرة. وما لبثت جوقات بعض الكنائس أن أخذت تجوب شوارع المدينة تترنّم بذكرى ميلاد المسيح الذي وُلد في مدينة بيت لحم منذ أكثر من ألفَي سنة.
ولكن هناك في حيٍّ من أحياء المدينة، جلس "أبو نبيل" على شرفة منزله المتلفّع بالظلمة يحدّق إلى الأفق المرصّع بالنجوم، يهوم في عالم غريب عن عالم الميلاد وأجوائه وكأنه لا يمتّ إلى هذه الأرض بصلة. لقد انقلبت حياته فجأة فتحوّلت إلى قصة ألمٍ مرير صامت يعجز حتى عن التعبير عنه.

فمنذ أكثر من أسبوعين وهو يعيش في خواء رهيب أشدّ قسوة من الموت، يعتريه يأس قاتل وكآبة مرعبة، بل أخذ يحسّ بأن نصالاً حادة تمزّق قلبه فتنزف منه الدماء في صمت. لقد جفّت الدموع من عينيه، وتصلّبت في محياه عضلات وجهه، وبدا له الوجود كله كقطعة من خشب تأكلها النار فلا يبقى منها سوى الرماد. وأخيرًا تحركت شفتاه وكأنه يناجي نفسه:

- ابني الوحيد مفقود! هكذا أنبأتني وزارة الدفاع؛ ابني مفقود، ربما قتلته قذيفة... فالمفقود بمثابة الميت أو المقتول.

ثم خيّم عليه ما يشبه الذهول، وظلّ قابعًا في مكانه يحملق في الفراغ. انقضت نحو نصف ساعة من غير أن تبدر عنه حركة وكأنه تمثال منحوت؛ وعندما همّ بالنهوض ليلج إلى مخدعه شعر بالإعياء يدبّ في كيانه، ولكنه تهالك على نفسه ودبّت خطاه البطيئة إلى حجرته، خاوية، وكأنه يمشي بين القبور.

إنه يعيش وحيدًا في هذا البيت المقفر منذ أكثر من ثلاث سنوات بعد أن ماتت زوجته بمرض عضال، والتحق ابنه "نبيل" بالجيش. لم يكن يظن آنئذ أن حربًا شعواء ستشب بين بلده ودولة غريبة اعتدت على أرض الوطن؛ لشدّ ما اعتراه الخوف على ولده، وأنفق وقتًا طويلاً في الصلاة من أجل سلامته وسلامة رفاقه، ولكن يبدو أن الله قد أصمّ أذنيه عن ابتهالاته وأشاح بوجهه عنه.

اضطجع على سريره في مخدعه البارد. لم يكترث أن يدير زرّ التدفئة في تلك الليلة، بل إنه لم يعبأ أن يفعل ذلك منذ أن بلغه النبأ المحزن. ولكنه لم يحسّ بالبرد لأن جسده لم يعد يشعر بتقلّبات الجو.

حاول أن ينام فلم يرنق الكرى جفنيه إذ كيف يمكنه أن ينام وعالمه قد انقلب رأسًا على عقب. لقد أصبح وحيدًا يهيمن عليه صمت مطبق. لكم يود لو انتقل من هذه الحياة مع زوجته، فهناك في الأبدية، لن يكون وحيدًا.

حملق في سقف الحجرة وكأنه يحاول أن يستشفّ ما يدور وراءه من أحداث إن كانت في السماء أو على الأرض. فجأة من أعماق اليأس والشعور بالفراغ أخذ يجترّ الذكريات المتوارية خلف الزمن. ذكريات اختلطت فيها الصور من الماضي السحيق... تراءت له زوجته في ليلة الزفاف، وحين وُلد "نبيل"، وتخرّج من المدرسة الثانوية، ثم مرض زوجته وما قاسته من آلام، ثم لحظات الفراق التي استهلكت ما في ذاته من قوة؛ وبدا له أيضًا ابنه "نبيل" ببزته العسكرية، وابتسامته الواثقة، وعينيه الوامضتين؛ ولأول مرة منذ أن بلغه النبأ الأليم أجهش بالبكاء...

لم يدرِ كم انقضى عليه من الوقت وهو مستغرق في أشجانه، ولكن عندما التفت نحو النافذة القريبة من سريره شاهد خيوط الشمس تتسلّل إلى الحجرة، فنهض عن سريره ووضع عليه "الروب" ليعود إلى مجلسه في الشرفة. بغتة سمع قرعات قوية على باب منزله، فتوقف في مكانه لحظة، وظنّ أنه ما فتئ يجترّ ذكرياته، ولكن عندما فتح الباب شاهد أمامه شابًا ببزّته العسكرية. فأحسّ بقلبه يخفق بشدة حتى كاد أن يقع على الأرض إذ خُيّل إليه أن هذا هو ابنه "نبيل"؛ عائد من الحرب. غير أنه سرعان ما تبيّن له أنه لا يشبه ابنه، وتراءى له أنه قد قدم إلى منزله لينبئه بأنه قد تمّ العثور على ابنه قتيلاً في ساحة المعركة.

تطلّع إليه الجندي بنظرات هادئة، وقال له:

إنني أحمل إليك رسالة من "نبيل"، وها هي.

تناول الرسالة بيد راجفة، وندّ عنه صوت راعش خافت:

- أهو حي؟

نظر إليه الجندي وأجابه:

- ستجد في هذه الرسالة... وسكت قليلاً ثم قال:

- إقرأها بنفسك، واعذرني لأنني أرغب أن أقضي يوم الميلاد مع أسرتي. وداعًا.

وقبل أن يقول "أبو نبيل" شيئًا، استدار الجندي ومضى في طريقه...

ظلّ "أبو نبيل" يرنو إلى الرسالة بناظرٍ أوجن، وخالجه خوف مفزع مما يمكن أن تحتويه من أخبار، وحدّث نفسه:

- لا بدّ أن "نبيل" قد كتب هذه الرسالة قبل المعركة و...

تهافت "أبو نبيل" على أوّل مقعد اعترضه في مدخل البيت، وفضّ الرسالة بقلب واجفٍ وأخذ يقرأ:
والدي الحبيب،

أكتب إليك هذه الرسالة بعد أن تعرّضت لظروف يتعذّر عليّ أن أصفها، ولكنني سأحاول، بقدر الإمكان أن أسرد عليك ما يمكن أن أتذكّره. أنا أعلم أولاً أن وزارة الدفاع قد اتصلت بك وأبلغتك الأنباء المفزعة عمّا يمكن أن يكون قد أصابني في خضمّ المعركة الدامية، وأنني أتكهّن أنهم قالوا لك أن ابنك مفقود لأنهم لم يتمكّنوا من العثور على جثتي في أرض المعركة، كما إنني لم أعد إلى كتيبتي مع بقية زملائي الأحياء أو المصابين؛ فالتقليد الرسمي المتّبع في مثل هذه الأحوال هو اعتباري مفقودًا. ولم تكن وزارة الدفاع بعيدة عن الصواب؛ فأنا كنت حقًا مفقودًا لأنني أصبت في إبّان المعركة وفقدت وعيي. وعندما عدت إلى رشدي، وجدت نفسي بين عشرات القتلى من الطرفين، فزحفت نحو بقعة كثيفة الأشجار قريبة من ساحة الوغى، تحسّبًا للطوارئ. وبعد بضع ساعات شاهدت عربة يجرّها حصانان تجتاز الطريق الجانبي القريب من الأشجار. فأخذت أصرخ بملء صوتي مجازفًا بحياتي إذ لم أكن أدري إن كان أصحاب هذه العربة من الأعداء أو الأصدقاء.

توقّفت العربة قريبًا مني وترجّل منها رجل من أبناء قرية مجاورة كان قد هاجر إليها من بلد آخر قبل وقوع الحرب. وعندما رأى جروحي وحالتي المزرية رقّ قلبه لي وحملني إلى عربته وأخذني إلى بيته حيث بذل كل جهدٍ في العناية بي إلى أن تعافيت بعض الشيء. وعندما أصبح في وسعي أن أغادر المنطقة سرًا، اجتزت الحدود بمساعدة هذا الرجل الكريم الذي عرفت منه أنه مؤمن مسيحي، وعدت وانضممت إلى كتيبتي.

أنا الآن يا والدي في المستشفى العسكري لمتابعة العلاج، ولكن لا بدّ أن يصلك بلاغ آخر من وزارة الدفاع يخبرونك فيه عن العثور عليّ. إنني حقًا بصحة جيدة على الرغم مما فقدته من دم. غير أنني أريد يا والدي أن أسِرّ إليك عن اختباري بمعاملات الرب معي في هذه الظروف الهائلة. لقد أحسست به قريبًا جدًا مني حتى في أشدّ المواقف رهبة، وكنت واثقًا، يا أبي، أن صلواتك التي كنت ترفعها أمام الله من أجلي ومن أجل رفاقي قد حظيت برضاه.

إنني أبعث إليك بهذه الرسالة بيد زميلي في السلاح "عصام"؛ فهو عائد لقضاء عطلة الميلاد مع أسرته وتطوّع أن يحمل إليك مني هذه الرسالة، فلا ينقضي عليك عيد الميلاد وأنت تقاسي من القلق والغم من أجلي.

لقد أنبأني اليوم الضابط المسؤول عن كتيبتنا أنه قد حصل لي على إجازة لمدة ثلاثة أسابيع لكي أقوم بزيارتك. إنني أرتقب هذه العطلة بشوق عميق، فإلى اللقاء...

ابنك المحب،
نبيل

غصّت عينا الوالد بالعبرات، وشعر بدبيب الحياة يسري في جسده من جديد. صرخ من أعماق نفسه: ابني حيّ... ابني حيّ... لقد أنقذه الله من الموت، شكرًا لك يا إلهي، شكرًا!

ومن بعيد حملت إليه الريح أصداء أجراس العيد.

المجموعة: 201012

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

511 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10474383