Voice of Preaching the Gospel

vopg

حزيران June 2012

helen_keller"إن هيلين كيلر ترى الأشياء في صدق وعمق يعجز عنهما غالبية الناس، فما أكثر العيون الزائفة التي تحدق في الشيء دون أن تراه. هي ونابليون في عقيدتي أعجوبة القرن التاسع عشر".    ­— مارك تواين

في السابع والعشرين من حزيران (يونيو) 1880، شهدت "تسكامبا"، وهي بلدة صغيرة تقع إلى شمال ولاية ألاباما الأميركية، مولد طفلة خلقها الله خلقًا سويًا. ونحن، وإن كنا نعرف من كتاباتها الشيء الكثير عن محتدها وخصائص أسرتها، إلا أن الأمر الذي يهمنا ذكره هو أن جدها السويسري "كاسبر كيلر" كان يعلّم الصمّ والبكم في مدرسة "زوريخ"، وأنه قد خلّد مؤلفًا نفيسًا في هذا الموضوع.
فتحت "هيلين كيلر" عينيها لنور الوجود، وكانت كسائر الأطفال في اطراد نموّها الطبيعي قبل أن بلغت تمام سنتها الأولى بقليل لأنها فاقتهم ذكاء وانتباهًا، فقد بدأت تنطق حين سلخت الشهر السادس من عمرها، وقد استرعت أسماع أهلها لما صاحت ذات يوم في لفظ محكم الإبانة واضح الأداء قائلة: "شاي! شاي! شاي! Tea" وكانت تلتفت إلى أهلها وتحييهم في نبرات تنبعث منها صأصأة حلوة فتقول: How d’y وتقصد How do you do أي كيف حالك؟ ومشت في تمام سنتها الأولى. على أن ذلك الطور السعيد لم يدم طويلاً، فهي دورة واحدة لربيع وضاح تناغى على أشجاره الهزار، وهي دورة واحدة لصيف فرد جاد بالخصب الوفير، والخير الغزير، والزهر الجني، والثمر الشهي، وهي دورة واحدة لخريف عجيب اكتست أيامه ببروده الموشاة واختالت أرضه بديباجها المعصفر ووخزها الأرجواني، وحليها الذهبي، ومضت كل منها سراعًا — مضت بعد أن تركت عطاياها السخية عند قدمي طفلة متشوفة مرهفة الحس، شاهدة اللب، لطيفة الملكة، سعيدة بالوجود.
ثم يقبل شهر شباط "فبراير" الكئيب، فيصيبها ذلك المرض الثاقل الذي يغرقها في تلك اللجج التي تلف وعي الطفل في أول نشأته وتطويه في نوم وغفلة فلا ينتبه لحق أو مغزى، ولا يفقه قولاً ولا يؤدي معنى. ويقولون: إنه احتقان حاد في المعدة والدماغ. ويصرح الطبيب أنه لا يرجو نجاتها منه. على أن تلك الحمى ما لبثت أن أقلعت عنها كما أطبقت عليها في بغتة وخفية.
وانشرحت صدور الأهل وشملهم السرور حمدًا لله الذي حرس جسمها وعافاه ومحا عنها ذلك السقم وعفّاه وجعل العافية عقبى شكواه. ولكن أحدًا منهم بل إن الطبيب بعينه لم يعرف أن الحمى قد ذهبت ببصرها وسمعها ذهابًا لا أوبة له أبد الدهر.
وتحاول "هيلين" أن تجمع شتيت ذكرياتها الملجة فتشيد بذلك الحنو العجيب الذي استعانت به أمها على تلطيف فجيعتها وقد أقض الألم مهادها وأقلق الهم وسادها. وتستحضر هيلين بنوع خاص كربة الوهلة القاسية التي أفزعتها ذات يوم من نومها المضطرب وجعلتها تحوّل عينيها الجافتين الملتهبتين المحترقتين إلى الحائط لتتفادى الضوء الذي طالما ولعت باجتلائه في ماضي أيامها، وإذا بجحافل الظلام تقبل وتخيم شيئًا فشيئًا بين عينيها وجفنيها وتطفئ نورهما وتطمس أمامهما صحيفة الكون وتوشحه بالحداد، وتتركها في ليالٍ ليست لها أسحار، وظلمات لا تتخلّلها أنوار، وتنتهي أخيرًا إلى البكم لأن الداء صمّ أذنيها فلا تتعلم ألفاظ اللغة وتنسى الكلمات القليلة التي حفظتها قبلاً، وينعقد لسانها، ولكن إلى حين!
ثم لا تلبث أن تقوى فيها حاسة الشم فتميّز بها صنوف الأزهار، وفي سنتها الخامسة تتعلم أن تكوي الملابس النظيفة، وتفصل ثيابها عن غيرها، وترتبها في المكان المعد لها، وتتمكن من مساعدة أمها في بعض الشؤون الطفيفة، وترافق تربها "مرثا واشنطون"، ابنة الطاهية الزنجية في البحث عن بيض الدجاج السوداني بين الأعشاب الطويلة وتلتقطه، وتأبى أن تسلمه لمرثا مخشاة أن تزل قدمها فيتحطم منها، وتقضي ما بقي من نهارها في ملاعبة دماها المسبوكة من الجبس، وأصنامها المصنوعة من الخزف والصلصال. وتأنس إلى عزيزتها "بيللا" الحسناء، وتلتمس عندها الإلفة والمودة بعد أن أنفت شقيقتها من الرتع مع هذه العمياء الصماء. وكانت بيللا في طراءة سنها من كلاب الصيد البارعة، ومع ذلك فقد كانت "هيلين" تضربها كلما تثاقلت لشيخوختها عن ملازمتها في جولاتها.
وتشعر الطفلة أنها غريبة عن العالم الذي تعيش فيه... غريبة عن الأطفال الذين يتواثبون حولها، فتؤثر الانزواء قرب المستوقد تطلبًا للدفء والدعة، ويمتد لهب النار ذات ليلة إلى ملابسها ويوشك أن يقضي عليها، ولكنها تستنقذ في آخر لحظة فتقول أمها: "إن رحمة الله لم تدركها ساعتئذ لتريحها من هذا العذاب الممضّ".
وكثيرًا ما كانت الطفلة تظهر بوادر خبثها الذي يستتبعه انقباضها الشديد واستفرادها المذيب، وتقع في يدها ذات يوم مجموعة المفاتيح فتعرف كيف تستخدمها وتحبس أمها في بيت المؤونة ثلاث ساعات كاملات وتذهب إلى الكُنة وتجلس على درجها فترتفع عقيرتها بالضحك والتهليل وربة البيت الحبيس تقرع الباب أثناء ذلك بقبضتها عسى أن تلفت سمع الخدم الذين كانوا بمبعدة عنها.
وكانت هيلين تنفض رأسها لتعبّر عن الإيجاب والقبول، وتهزّها إذا أرادت الرفض، وتقرقف وترتعش للادلال على شعورها بالبرد، وتثور في أحايين لعجزها عن إبلاغ مرادها، وتضيق ذرعًا عن احتمال وحشة سجنها الدائمة في الظلام. ويثقل عليها نير الصمت الملازم ويتفطر لها قلب والديها المحبين وكأن كلاً منهما يشعر بأنه قد ارتكب جريمة لا تمحى لأنه كان السبب في وجودها.
وتقرأ أمها يومًا في مقال لـ "تشارلس ديكنز": أن "لورا بردجمان" العمياء الصماء قد شفيت على يد طبيب اسمه "هاو"، وتمتعض أسفًا لموته. وإذ تبلغ ابنتها السادسة من عمرها يذهب بها أبوها إلى الأخصائي الكبير "دكتور تشهولم" في بلتيمور MD، فيعجز عن مداواتها وينصحه بأن يستعين بالعالم الكبير "دكتور جراهام بيل" في واشنطن. ويُذكر له ذلك العالم المجهودات التي تبذل في معهد "بركنز" في واشنطن لتخفيف ويلات المكفوفين بفضل الخدمات والتوجيهات التي أسداها إليه دكتور "هاو" قبل وفاته. ويشير عليه بمقابلة "دكتور أناجنوس"، مدير ذلك المعهد، فيختار له معلمة اسمها الآنسة "آن بساليفان"، كان العمى قد أصابها في صدر أيامها، ثم استعادت بصرها بعملية جراحية. فيبعثها إلى "هيلين" في الثالث من آذار (مارس) سنة 1887. وكانت قد بلغت حينئذ تمام الشهر التاسع من سنتها السابعة.
وتعتبر هيلين يوم وصول المعلمة إليها أهم يوم في حياتها، وتعلن على رؤوس الأشهاد غير مرة: أن خطُره أكبر من أن يذكر، وأن فضله أعظم من أن يشكر، لِما له من المزية الظاهرة، والجلالة الباهرة، والآثار الخالدة على أيامها قاطبة، وتصف اعتزازها به فتقول: "مددت يدي كما أمدها نحو أمي، فإذا بيد حنون تتناولني وتجتذبني إلى صدر تلك التي جاءت للكشف لي عن حقائق الوجود، بل لتغمرني بما هو أعظم من هذا كله، أي بحبها المحض  وودها الخالص". وقد علمتني كلمات كثيرة في ذلك اليوم. ولئن كنت لا أستطيع أن أتذكرها إلا أني أعرف أن "الأم، والأب، والأخت، والمعلمة" قد كانت في جملتها — جملة الكلمات التي جعلت العالم يزهر لي زهرًا وينضج لي لوزًا كعصا هرون التي أزهرت. وكان من العسير أن تلقى طفلة أسعد مني حين آويت إلى أكناف مهدي في ختام ذلك اليوم المشهود واقتطفت ثمرات المسرات التي جاءني بها. ولأول مرة ظمئت إلى لقاء يوم جديد ونازعتني نفسي إلى استقباله".
وترى المعلمة النبيلة أن هيلين معضلة جديرة بالدرس لأنها كانت تجهل اللغة. ووجدت صعوبة في بداية مهمتها، وعانت برحًا بارحًا حين أرادت أن تُفهمها فائدة الكلمات، وكونها الأداة التي تمثل الأشياء أو الأفكار أو الأحاسيس. وأوشك أن يستولي عليها اليأس حتى وقفت بها في أحد الأصباح قرب بئر الحديقة، فخطر على فكرها أن تضع يد الطفلة تحت مفجرة الماء. وإذ كان ينساب على راحة يدها تهجأت لها اسمه بنقر أناملها عليها. وتمكنت في بضع ساعات من إتقان تهجئة ثلاثين كلمة شهقت معها من الفرح لأنها لم تكن تدري من قبل أن للأشياء التي تتلمسها أسماء. ولم تمض خمسة أشهر حتى استطاعت أن تتهجأ ستمائة وخمسًا وعشرين كلمة لشدة تيقظ فؤادها وصفاء ذهنها.
وتعمد المعلمة بعد ذلك إلى صنع مجسمات من طين تصوّر لها أشكال الجبال والأنهار، وتبني بالحصى خزانات تمثل لبصيرتها الفوارق بين الجزائر والجداول، فلا تشعر الصغيرة بوطأة الدرس. وتتقدم من ثم لتتعلم القراءة في الكتب ذات الخط البرايلي. وتزور في الثامنة مع معلمتها مدرسة "بوسطن"، وتسر بمحادثة الأطفال العميان، لكنها تسترسل في الكآبة لأنهم لا يستطيعون محادثتها إلا باللمس في حين يستطيعون محادثة بعضهم بعضًا بألسنتهم.
وكانت هنا قد بدأت بدراسة التاريخ ومطالعة سير العظماء، ويطير فؤادها فرحًا لدى إشرافها على الأطلنطي فتسأل معلمتها: "من ذا الذي وضع ماءه ملحًا؟" وكانت تمتطي مهرها الأصيل في فترات فراغها من الانكباب على الدرس والاستقراء، وهما مهوى قلبها الساغب ونهل عقلها الظامئ.
ويزداد العهد بين المعلمة وتلميذتها التي طالما لهجت بفضلها قائلة: "إن خير ما فيّ هو من فيض معروفها، فما من موهبة أو وحي أو غبطة إلا أيقظتها فيّ بلمستها العطوف. لم أكن أعرف أن هناك كلمات، وأن لحركة أصابعي معنى! ثم اكتشفت بفضلها هذه المعاني، وعرفت الأسماء والصفات، بل عرفت اسم الفتاة النبيلة العظيمة الصبور التي علمتني كل شيء وجعلتني أرى جمال الحياة وجلال العيش فيها، ومكنتني من إطلاع الآخرين عليها، وحدثتني عن العالم البديع الذي أعيش فيه. حدثتني عن الماء، والأشجار، والبيوت، والكتب، وعن الأمل والسرور، وعن الحب، وكانت تقول لي: "خذي الحب مثلاً! ليس هنا من يستطيع أن يراه أو يسمعه ولكنه موجود! وهو عاطفة قوية متدفقة نشعر بها في قرارة قلوبنا دون أن نبصرها".
وجعلت أذنيّ الموقرتين تسمع صوت الخالق كلي القدرة — صوته الذي يتردد صداه في جنبات عالمه العجيب الوسيع — وأنطقت فمي الأبكم بالسبح والتهليل، وحلّقت بنفسي في آفاق الحرية والاستقلال. وكانت المعلمة تزكي التلميذة وتمتدحها، وتجاهر بأنها ذات قلب كبير يفيض إخلاصًا وشجاعة، فهو لا يرهب شرًا ولا يتسع للقسوة والخوف أو الريبة. ولقد قالت حقًا، فإن هيلين لا تدري هل يستطيع إنسان أن يكون غير خالص الودّ؟ حتى أنها حين سألها أحدهم عن تعريف الحب أجابت: "رعاك الله! إن هذا من أيسر الأمور... فالحب هو العاطفة التي يحسها كل إنسان نحو كل إنسان آخر ويبادله إياها".
أوَلاً ينمّ جوابها هذا عن نفس منبسطة الأرجاء توزّع فيها حب البشرية وتفهّم ما انطوى عليه طبعها من جميل المناقب وحلو الشمائل!

المجموعة: حزيران June 2012

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

147 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10576447