Voice of Preaching the Gospel

vopg

تموز July 2012

الدكتور صموئيل عبد الشهيديحدثنا سفر أيوب عن انهيار عالمه الروحي والمادي. فقد نزلت به المصائب من حيث لا يدري؛ ولم يدرك بوجود مؤامرة غيبيّة حيكت ضده في عالمٍ بعيد كل البعد عنه. وجد نفسه فجأة في موقف عدمي فقد فيه الأسرة، والثروة، والجاه، وأضحى أقلّ قيمة من حشرات الأرض. لم يكن سقوطه تدريجيًا بل مفاجئًا، وسريعًا حتى تعذّر عليه أن يفهم ما هو القصد الإلهي من وراء ما نزلت به من أهوال وكوارث.

ومع ذلك، فقد بدا في المرحلة الأولى من نكبته، متماسكًا، ثابت الجنان، مفعمًا بالثقة بالله. لم يحتجّ أو يشكو بل تقبّل كل شيء بصبر، واستسلام للمشيئة الإلهية، واستطاع في هذه الحقبة أن يتخذ موقفًا جبارًا ينمّ عن الإيمان، والرجاء. لم يدعْ للشكوك أن تساوره، أو توهن من عزيمته، فكل ما كان يملك من أموال، وما أنعم الله عليه من بنين وبنات هو من فضله تعالى، فالرب أعطى والرب أخذ، وهو وحده الذي له الحق أن يسترجع ما أعطاه. ولكن لم يلبث أيوب أن وجد نفسه بعد مضيّ زمن قصير عرضة لدواهي أخرى أشدّ وأمرّ. ولم يكن ذلك من صنع الله بل بفعل الأحكام البشرية القاصرة التي تعجز عن أن تبين ما يجري في عالم الخفاء فتسرع بالإدانة. فقد أقبل إليه بعض أصدقائه، وجلسوا في حضرته لمدة سبعة أيام، لا يقولون شيئًا، يخيّم عليهم صمت قاتل، وقد انعقدت ألسنتهم عن الكلام بعد أن شاهدوا الحالة المتردية التي أصبح عليها أيوب، فخر الشرق وحكيمه. وإذ ثقل عليهم الصمت المطبق، وعجزوا عن تحمّله أخذ كل واحد بدوره يصدر أحكامه على وضع أيوب مؤكدين له أن ما أصابه من ويلات هو عقاب من الله لأنه أخطأ إليه بطريقة أو بأخرى؛ لهذا أوقع الله به دينونته ليرتدّ إلى رشده، ويستغفر ربّه ويتوب إليه. فكانت انتقاداتهم وتأنيباتهم أثقل عليه من جميع الضربات التي أحاقت به، فنراه في ردّه عليهم يتحرّق غيظًا، ويتهمهم بأنهم معزون متعبون.
هذه الصورة الحية التي رسمها لنا الكتاب المقدس عن سيرة أيوب تعكس لنا مواقف كثيرة في حياة الكنيسة المحلية على صعيدين هامين: هما الصعيد الفردي، والصعيد الجماعي، بل أحيانًا، ولو من بعيد، لها علاقة بالكنيسة المضطهدة في العالم بغضّ النظر عن الزمان والمكان.
وأود هنا أن أتناول بعض الجوانب من الحياة الروحية في الكنيسة التي تجد نفسها في ظروف كثيرة تخوض معركة رهيبة ضدّ قوى الشر المتألبة ضدّها في بلدان ومجتمعات تتنكّر للمسيح، ولفدائه، وقيامته. ويقف المرء حائرًا أمام هذه الدواهي التي تنزل بالكنيسة والتي يماثل في ويلاتها مآسي أيوب، ويأخذه العجب، بل يتساءل في قلبه: أين الله؟ أليست الكنيسة هي جسده المقدس والهيكل الذي يسكن فيه روحه القدوس؟ لماذا يسمح الله بهذه الاضطهادات أن تحلّ بكنيسته؟ وليست هذه التساؤلات بالأمر الغريب، ولا هي ممن يدعو إلى الدهشة؛ ولا تعبّر عن ضعف الإيمان. ولكن الإنسان المحترق في بوتقة النار لا بدّ لمثل هذه الخواطر أن تدور في رأسه المتعب والمحتار، ولا يجد لنفسه ملجأً سوى الله يوجّه إليه هذه الأسئلة المربكة، تمامًا كما حدث مع أيوب عندما هتف في غمرة عذابه مبتهلاً إلى الله أن يجيبه عن أسباب هذه الدواهي التي هاجمته والنكبات التي اجتاحت حياته وحياة أسرته فذرّتها الرياح.
إن الكنيسة المضطهدة اليوم تعاني من الآلام البراح ومن المعارك الشيطانية كما عانى أيوب. ولكن علينا أن نتذكر أن المسيح سبق فحذّر الكنيسة من مثل هذا الاضطهاد لأنه أدرك أن العالم الذي نعيش فيه هو عالم معادٍ لله. ويمكننا أن نوجز في تصوير طبيعة هذه القوى أو بعض مظاهرها بما يلي:

أولاً: البغضاء

تحدث المسيح إلى تلاميذه وأنذرهم أن العالم الذي يعيشون فيه هو عالم مفعم بالبغضاء، لأنه خاضع لإبليس. وإبليس هو عدو المسيح الأول، والمجاهد في سبيل القضاء على كنيسته أفرادًا وجماعات. قال المسيح لتلاميذه: "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يوحنا 18:15). ويتابع كلامه في عدد 20 "... إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم". وأكثر من ذلك فإن المسيح يربط مواقف المضطهِدِين منه بموقفهم من الآب السماوي إذ يقول: "الذي يبغضني يبغض أبي أيضًا" (عدد 20). فالملحدون، والمتنكرون لله، والمتمرّدون على وصاياه، ومضطهدو أولاده وأعداء الكنيسة هم في الواقع يبغضون الله ومسيحه، ويودون لو في إمكانهم أن يقضوا على ملكوت الله السائد على الأرض قضاء تامًا بوحي وتعضيد من إله هذا الدهر إبليس.

ثانيًا: المخاض

إن الاضطهاد هو جزء من المخاض الروحي، ولا ولادة من غير ألم. فالكنيسة منذ نشأتها الأولى، تكبّدت آلامًا هائلة قبل أن يتم ولادتها وتأخذ مكانها في تاريخ البشرية، وما علينا سوى أن نقرأ أعمال الرسل وسيرة آباء الكنيسة الأولين حتى تتّضح لنا قصة المعركة الروحية والجسدية التي تعرّضت لها الكنيسة فقامت على التضحيات الهائلة والشهادة الجريئة، وبذل الذات من أجل المسيح. والحقيقة أن المسيح بيّن لتلاميذه أنه "ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يوحنا 13:15)؛ وإذ بذل المسيح نفسه من أجل الإنسان الخاطئ ضرب لنا أعظم مثال على هذه التضحية التي تُجسِّد المحبة الحقيقية التي يتعذّر على المرء استيعابها. وهذه الحقيقة لم تغب عن بال آباء الكنيسة الأولى. فقد استشهد الرسل جميعًا من أجل المسيح باستثناء يوحنا الحبيب الذي مات موتًا طبيعيًا ولكن بعد أن تعرّض للنفي، والاضطهاد، والحرمان من الحرية. فالمسيحية عانت من الاضطهاد منذ بدايتها ولم تكن يومًا مضطهِدة. أقول ذلك وأنا أشير إلى المسيحية الكتابية وليس إلى المسيحية السياسية أو المسيحية التي أخضعت نفسها للنزعات الحربية، والاستعمارية. فالمسيحية الكتابية هي مسيحية تضحية، واستشهاد مسالم، وبذل، وعطاء. كانت دائمًا هي الضحيّة وليست هي الباغي المفترس.
أجل إن ولادة الكنيسة هي بفعل المخاض الروحي المقدس والإيمان بالفداء؛ ومن أعظم مظاهرها الدعوة إلى المحبة، والسلام، وليس إلى الاضطهاد.

ثالثًا: هبة الاضطهاد

لقد نظرت الكنيسة الأولى، ووفقًا لوحي الروح القدس إلى أن الألم، ولا سيما في تثبيت أركان الكنيسة، هو هبة من الله وليس لعنة. في رسالته إلى أهل فيلبي يخاطب بولس الرسول المؤمنين قائلاً:  "لأنه وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله". فالاضطهاد من أجل المسيح هو نعمة مباركة لأنه ينقي الكنيسة من الشوائب فلا يثبت في الإيمان إلا من هو راسخ بالمسيح، تعمّقت فيه جذور المحبة، وتشبّع بالروح القدس، بل إنه يرى الاضطهاد ربحًا. ولكن لي ملاحظة بهذا الصدد، إن الرب لا يريد منا أن نلقي أنفسنا في التهلكة أو نصطنع الاضطهاد. ولكنه ينذرنا بأن الاضطهاد إذا وقع علينا ككنيسة أو أفراد فإن الله عالم به وله فيه مقاصد وأغراض لخير الفرد والكنيسة على حدّ سواء. والحقيقة أن أعظم سبب لاضطهاد الكنيسة والمؤمنين هو إيمانها بالمسيح يسوع. هو محور هذا الاضطهاد. ومن يتأمل في سيرة الأديان الأخرى على مدى العصور لا يكاد أن يجد نظير هذا السبب مدعاة للاضطهاد. نعم، إن المسيح هو حجر عثرة للذين لا يؤمنون.
فإن كان الألم أو الاضطهاد هما هبة في حالة وقوعهما، فإن الله لا بدّ، إذن، أن يمنح الكنيسة نعمة خاصة. فما من بلد في العالم قاست فيه المسيحية من الألم والاضطهاد، إلا أن انتشرت فيه المسيحية بصورة مدهشة؛ وأعظم مثال على ذلك ما حدث في الصين الشيوعية. فقد ظنّ الشيوعيون أنهم قضوا على المسيحية في بلادهم ولم يبق منهم سوى حثالة حقيرة، ولكن ما أن خفّت موجة الاضطهاد وانقشعت بعض الغمّة حتى فوجئ النظام الشيوعي بأن المسيحية تكاثرت وتوالدت في الصين بصورة مذهلة، بل أصبحت أضعاف ما كانت عليه قبل الاضطهاد. إن أحدًا لا يمكن أن ينقض أسس كنيسة المسيح.

رابعًا: الاضطهاد مصدر الانتصار

لقد أثبت التاريخ أن الكنيسة هي دائمًا المنتصرة بعد كل اضطهاد أو بعد تعرضها لمعارك طاحنة تسعى للقضاء عليها. لقد أخفقت جميع المحاولات في اجتثاث أصولها؛ وخرجت من معمعة القتال وهي أشدّ قوة،
بقية موضوع "أبني كنيستي الغالبة من صفحة

وأصلب مكسرًا؛ لأن الكنيسة لم تُبْنَ بأيدٍ بشرية، ولا أقيمت بفضل جهود بشرية. إنها ثبتت أمام جحافل الاضطهاد لأنه مبنية على صخرة المسيح. يقول الرب يسوع: "وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي". وهذه الصخرة هي صخرة الإيمان به. لقد ضمن المسيح انتصار الكنيسة وثباتها أمام تقلبات الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والعرقية، وإن بدت أحيانًا، أن قوى الشر هي الغالبة. ولكن التاريخ برهن لنا أن وعد المسيح صادق وأمين، وأن الغلبة النهائية هي للكنيسة الكتابية المترسِّخة في جذور الإيمان المسيحي وليس في مظاهر ادّعائية مجردة من ممارسة الإيمان الحق. إن محور المسيحية هو المسيح، والمسيح وحده من بين الدعاة الدينيين لم يمت بل هو حي باقٍ إلى أبد الآبدين. فما من نبي، أو كارز إلا وأن تسرّب إليه الموت إلا شخص الرب يسوع الجالس الآن عن يمين الآب السماوي، وهو وحده الذي سيدين الأحياء والأموات ولا سيما أولئك الذين أنكروه ورفضوا فداءه، واضطهدوه، وأبغضوه، من خلال اضطهادهم للكنيسة، فالمؤمن المسيحي ليس عبدًا مضطهدًا حسب قول المسيح بل المؤمنون الحقيقيون به هم أحباؤه: "أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكنني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يوحنا 14:15).
أخي المؤمن، وأختي المؤمنة، أيتها الكنيسة الحية بالمسيح، أينما كنتم جميعًا، دعوني أقول بناء على مواعيد المسيح الصادقة والأمينة: إن المسيح هو الصخرة الحقيقية التي تتكسّر عليها جميع الاضطهادات، والآلام، والأوجاع، وتحقق أروع الانتصارات على جميع أجناد الشر الروحية والبشرية معًا، وهو أبدًا الغالب المنتصر، وأنتم حقًا لمنتصرون، تمامًا كما كانت آخرة أيوب الذي لم يتخلَّ عن إيمانه إلى المنتهى.

 

المجموعة: تموز July 2012

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

340 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10556567