Voice of Preaching the Gospel

vopg

تموز July 2013

الدكتور صموئيل عبد الشهيدمن المألوف بمناسبة "عيد الأمهات" أن تُدبَج المقالات الرائعة للتعبير عن مشاعرنا الصادقة نحوهن وإطراء أفضالهن علينا، وهي أفضال لا تثمّن وجديرة بكل ثناء. فالمرأة التي تهزّ السرير بيمينها تهزّ أيضًا العالم بيسارها.
ولكننا في غضون استغراقنا في الإعراب عن محبتنا لأمهاتنا نغفل في معظم الأحيان عن تصوير عواطفنا، وتقديرنا عما يبذله الأب من جهد وعناء ومحبة وعناية بنا. فالمسؤوليات التي يتحملها الأب ولا سيما في عصرٍ مثل عصرنا، يتعذّر حصرها لأنها أيضًا تترك آثارًا بالغة في حياتنا لا تقلّ في قيمتها عما تحمله الأم من مسؤوليات أيضًا. لهذا، رأيت في ذكرى "عيد الأب" المشرفة علينا، أن أسكب هذه الخواطر التي أستلّها من الماضي وأختطفها من الزمن الهارب من حياتي. وهي خواطر وذكريات تمتّ إلى الواقع الذي أخشى أن يطويه الدهر قبل أن أدونه في سجل تاريخ نشأتي. ولست أبغي من ذلك أن أمجد والدي، وأتباهى به، فكل والدٍ يضع أسرته في مركز الأولوية في حياته، ويضحي في سبيل سعادتها، وتوثيق عرى المحبة بين أفرادها يستحق أن يحظى بتكريم أبنائه وبناته، فإن الله نفسه قد أوصى بإكرام الوالدين بقوله: "أكرم أباك وأمك فتطول أيامك على الأرض"، لذا، علينا إغداق كل محبة واحترام عليهما لما يقومان به من بذل وعطاء مجردين من كل أنانية.

غير أنني في معرض هذه المناسبة لا يسعني إلا أن أستعين "بالمثال" الذي كنت أراه في كل يوم، وأتلقّن منه دروسًا عميقة في مدرسة الاختبار البشري، لهذا رأيت في هذه الذكرى أن أشرك قارئي ببعض ما حظيت به من توجيهات عملية ولا سيما في الحقل الروحي الذي أصبح في ما بعد الأساس الذي بنيت عليه حياتي في علاقتي مع الرب أولاً، ومع الآخرين ثانية.
لقد وُلدت في عائلة مسيحية مكرّسة كان فيها الرب يسوع المسيح هو المحور، بل مركز الثقل في تاريخها. فمنذ أن ولدت كنت محاطًا بأجواء روحية مفعمة دائمًا بالإيمان والثقة والمحبة، على الرغم من تقلبات الأيام وعوادي هذا الدهر.
كان والدي قد أفرز نفسه ليكون خادمًا للرب منذ شرخ صباه، وظلّ أمينًا لدعوته إلى أن انتقل إلى الأمجاد الأبدية ليكون مع سيده ومخلصه.
ومع أن المدة التي عرفته فيها كانت قصيرة جدًا إذ توفاه الله وأنا لم أبلغ الثالثة عشرة من عمري، فإن ما شاهدته في حياته وحتى في مماته كانت الركيزة التي اعتمدتها عندما سلمت حياتي لفاديّ وإلهي. وأود هنا أن أختصر هذه المقومات في ثلاثة أمور لضيق المجال، ولما خُصّص لي من صفحات.

 

1- الصلاة

إن أبرز ما لاحظته في حياة والديّ هو روح الصلاة الدائمة المستمرة، وأهمها الصلاة من أجلنا. وإنني لأذكر من جملة ما أذكر، تلك الليالي التي خيمت عليها السكينة والتي كنت أستيقظ فيها لسبب أو لآخر، فترفّ في أذني همهمة تثير فضولي وتدفعني للاقتراب من حجرة نوم والديّ، لأتبيّن مصدرها، فكنت أشاهد من شقّ الباب والدي جاثيًا على ركبتيه يصلي بحرارة، بل بدموع من أجلنا، نحن أسرته وأولاده وبناته، مبتهلاً إلى الآب السماوي أن يجعلنا من أبناء الملكوت. ومع أنني في تلك الفترة من حياتي لم أعِ كثيرًا طبيعة الحوافز التي كانت تدفعه لكي يستيقظ في منتصف الليل للصلاة من أجلنا، أدركت أن هذه الصلوات كانت نابعة من فعل محبة عامرة تستهدف خلاصنا الأبدي. وحتى هذه اللحظة، وقد بلغت من العمر عتيًا، ما زلت أحيا تلك اللحظات التي شاهدتها لأن مرأى والدي الجاثي ما برحت محفورة في ذهني. لم تكن تلك الصلوات عابرة بل كانت صلوات حارة لا تنفك عن التوسّل بل البكاء أحيانًا، وفي رأيي أن مثل هذه الصلوات قادرة على إذابة الصخر، بل أن تهزّ "العرش الإلهي".
ولست أشك لحظة واحدة أن هذه الصلوات كانت كنزًا مرصودًا في خزائن الله فأثمرت في حينه، لأن جميعنا، نحن أبناءه، قد امتدّت إلينا يد نعمة الرب واجتذبتنا إليه بفضل تضرعات والديّ التي لم تملّ أو تتوقّف. وكان هذا هو الدرس الأول في حياتي: أن أصلي باجتهاد من غير كلل من أجل أولادي.
إن صورة مشهد الوالد المؤمن وهو يصلي من أجل أولاده هي أحبّ صورة في عيني الله.

2- إيمان يقيني

وكانت هذه الصلوات تتميّز بعمق الإيمان. فقد اشتملت على أحداث وأمور كثيرة في حياة العائلة. إن الاختبارات الروحية التي مررنا بها كانت سببًا لتقوية إيمان والدي، وترسيخ الإحساس باليقين بأن الله هو المالك لزمام الأمور وبيده مقاليد الأحداث يتصرّف بها كما يشاء ولا سيما من أجل خير أولاده ومحبيه. وفي عنفوان أمواج الحياة الهائجة مرَّ والدي باختبارات مجيدة كان لها دورها الفعال في حياة الأسرة. ومن جملة هذه الاختبارات حادثة وقعت ما زلت أذكرها وكأنها جرت في الأمس القريب. فلقد تآمر بعض المدعوّين مؤمنين على والدي لطردنا من البيت الذي نقيم به، ورفعوا دعوى على والدي في المحكمة، وأكثر من ذلك، فقد استأجروا محاميًا معروفًا للدفاع عن وجهة نظرهم. وفي حالة نجاحهم كنا سنجد أنفسنا مطروحين على قارعة الطريق لا ندري ماذا نفعل، ولا سيما أن أوضاعنا المالية آنذاك كانت متقلقلة جدًا. في تلك الليلة قضاها والديّ بالصلاة، ولم ينهضا عن ركبتيهما إلا بعد أن أعلن الرب لهما أن أولئك المرائين هم الخاسرون.
في ذلك الصباح وفيما كنا متحلقين حول مائدة الفطور، وبعد أن رفع والدي صلاة شكر لله، تفرّس فينا جميعًا وقال:
-  أودّ أن أبشركم أننا قد ربحنا الدعوى. وها أنا الآن في طريقي إلى المحكمة.
والغريب في الأمر أننا جميعًا لم يخالجنا شك في أننا قد ربحنا الدعوى سلفًا.
مضى والدي إلى المحكمة، وبعد القيام بالإجراءات المرعية، طلب محامي الدفاع من الشاهد الوحيد أن يتقدم إلى المنصة لكي يستجوبه، وهنا حدثت المفاجأة التي لم يكن أحد يتوقعها، فقبل أن يوجه إليه المحامي السؤال الأول، التفت هذا الشاهد إلى الحاكم وطلب منه الإذن بالكلام وقال:
- يا سعادة القاضي، إن هذا الرجل بريء من كل ما اتهم به. وهؤلاء الجماعة قد رشوني بمبلغ من المال لكي أشهد ضده، ولكنني لا أستطيع أن أنطق بشهادة زور على رجل تقي بريء مثل هذا.
وكانت هذه هي نهاية المحكمة. والواقع لم يكن قد مضى على غيابه ساعتين حتى رأيناه يدخل البيت بوجه تغمره البشرى والسلام، وأوّل ما قاله لنا: لقد ربحنا القضية.
لقد ذهب والدي إلى المحكمة وحيدًا ولكن في الواقع كان يرافقه إيمان يقيني، والمخلص الذي ينجي من فخ الشرير.
ومن المدهش حقًا، وبعد انقضاء سنوات عديدة، وجدت نفسي أعاني من مشكلة من نوع آخر، ولكنها كانت تتطلب إيمانًا يقينيًا ورفيقًا محاميًا أقدر من كل مكائد الدهر، ومؤامرات العدو، والرب نجاني منها كما نجى والدي من قبل.
إن مثل هذه الذكرى يتعذّر على الابن الذي شاهد هذا الاختبار يحدث أمام مرأى عينيه أن ينساها رغم صغر سنه.

3- عدم الخوف من المستقبل

ثم هناك جانب ثالث لا بدّ من الإشارة إليه، وهو عدم الخوف من المستقبل. إن الرحلة المسيحية هي رحلة صلاة، وإيمان يقيني، وامتلاء بالسلام الذي لا خوف فيه. إن هذه المقومات الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض، إن نقصت واحدة منهن يحدث خلل في الحياة المسيحية التي تنعكس آثارها على حياة العائلة بل على علاقة الإنسان بالله. فالامتلاء بالسلام، هو سرّ الانتصار والغلبة. إننا كمؤمنين نسير في موكب نصرة المسيح. والمسيح هو الغالب دومًا. لقد غلب في صلبه وموته وقيامته شوكة الموت واقتحم أسوار الهاوية، فاندحر إبليس اندحارًا رهيبًا. ولقد شهدت هذا السلام يعم حياة هذا الوالد المناضل بصورة دائمة. كان سلامًا متأصلاً في نفسه، فلا المصائب زعزعته، ولا قوى الشر استطاعت أن تهز إيمانه أو تضعفه. كان صامدًا جبارًا يذكرني بموقف الفتية الثلاثة في أتون النار، أو دانيآل في جب الأسود. ولقد عاينّا ذلك كعائلة في اللحظات الأخيرة من حياته. فعلى الرغم من دائه الوبيل، ووجوده في المستشفى، كانت بهجة السلام تفيض في عينيه وعلى محيّاه، ولم يمنعه مرضه من الكرازة بالإنجيل للمرضى في القاعة الكبرى في ذلك المستشفى الريفي. وفي الليلة الأخيرة من حياته، كانت الثلوج المتراكمة تغمر المنطقة بأسرها، فاستلقى على سريره، والتحف بالغطاء، ولكن ما لبث أن أخرج يده من تحت اللحاف ورفعها في الفضاء، فقالت له والدتي:

- إن الطقس شديد البرودة فضع يدك تحت الغطاء.
لكنه نظر إليها بغبطة وقال:
- لماذا تريدين أن تمنعيني من لقاء سيدي؟
وانقضت فترة صمت غريبة، وكأنما شاهد والدي حبيبه الفادي يدعوه إليه، إذ سمعه الحضور يردد:
- ها أنا قادم. وأسلم الروح.
إنني أخط هذه الذكريات المجيدة لأخاطب كل أب بمناسبة عيد الآباء وأقول له: أيها الأب، أنت في حلبة الحياة محاط بالمشاهدين من أفراد عائلتك، صغارًا وكبارًا، وأنت في موقف القائد الذي تتطلع إليك الأعين، وما تزرعه في قلوب أولادك وبناتك من بذور الحياة الروحية لن يذهب سدى، بل ستكون له نتائج باهرة في حياتهم جميعًا. ولكن إن أخفقت في نثر هذه البذور، فإن الأرض ستخصب بالأشواك، والعليق، وبكل ما لا يرضي الله. وستكون أنت المسؤول الأول عن هذه النتائج الوخيمة أمام الله ونفسك وعائلتك.
وكل سنة وأنت سالم أيها الأب القائد.

المجموعة: تموز July 2013

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

162 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10555380