Voice of Preaching the Gospel

vopg

ورد في إنجيل متى 37:10-39 هذه الآيات: "مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا."
وجاء في إنجيل مرقس 34:8 "ودعا الجمع مع تلاميذه وقال لهم: من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني."

ودوّن لنا إنجيل لوقا 23:9 "وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني."
وفي نفس الإنجيل 27:14 نقرأ هذا القول: "ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا."
إن المتأمل في الآيات أعلاه لا بدّ أن يقف مذهولاً أمام هذه المطالب التي يعجز عنها الإنسان العادي الذي لم يختبر نعمة المسيح في حياته. وقد يرى البعض أن في هذه المطالب العسيرة عقبات وضعها المسيح في طريق من يرغبون الإيمان به للحصول على الحياة الأبدية. وفي الواقع، إن من يمعن النظر في هذه الأقوال، ويفكّر فيها على ضوء العقل والمنطق، يعسر عليه أن يدرك مراميها، وما تستهدف إليه من تحقيق أرفع مستوى من العلاقة بين الإنسان المؤمن والله. هذا المستوى الذي لا يستطيع أن يختبره سوى القلب المكرّس الذي تكشّفت له المحبة الإلهية التي تجسّدت حية، وبصورة فعّالة على الصليب.
إن العقل مهما بلغ من الاتساع والذكاء والمعرفة لا يستطيع أن يتخطّى تخوم محدوديته عندما يقف وجهًا لوجه أمام "الماورائيات." وهذا أمر لم يغبْ عن بال الفلاسفة واللاهوتيين والمناطقة. والذين حاولوا اختراق أسوار المحدودية ارتدّوا على أعقابهم خاسرين لأن استيعاب "الماورائيات" أو إن شئت، تقبّلها يقتضي بصيرة الإيمان. وبصيرة الإيمان لا تتوافر إلا للقلب المؤمن الذي أصبح إناء طاهرًا لسكنى الروح القدس.
أجل، هناك في حيّز المعقول ما يعين على تفهّم بعض مظاهر القضايا اللاهوتية، ولكن هذه الأمثلة أو التفاسير تظلّ عاجزة عن تقديم وعيٍ عقليٍ متكاملٍ للإلهيات التي تفوق كل فهم.
كان الرب يسوع المسيح يدرك هذه الحقيقة، ويَعلم محدودية الإنسان ولا سيما تلاميذه الذين اصطفاهم من خلفيات شعبية، فلم يكن بينهم من هو فيلسوفٌ أو لاهوتيٌّ أو مفكّر دينيٌّ، بل كان بعضهم صيادي سمك، أو من العشارين أو ربما من أصحاب الأعمال اليدوية. ولكن، على الرغم من ذلك، فقد ابتدأ في تدريب تلاميذه أولاً، والجماهير المحتشدة حوله ثانيًا، على إدراك الغرض والقصد الإلهي من تجسّده لتنفيذ وإتمام الخطة الإلهية في خلاص الجنس البشري. وهذه الخطة، كما أشرت في مقال سابق، هي أعظم عملية إنقاذ وتحرير عرفها تاريخ الجنس البشري.
كانت هذه أول مرة يرد فيها ذكر الصليب في إنجيل متى (38:10). وهو أمر لم يتوقّعه التلاميذ أو الجماهير التي كانت تتبعه أينما ذهب. ولست أشكّ لحظة واحدة أنهم جميعًا قد فوجِئوا بهذا الحديث؛ ولعلهم تساءلوا، كما نرى في أماكن أخرى، عن مضمون هذه الأقوال، لأنهم في الواقع، لم يتبيّنوا بعد القصد من إرساليته، لهذا اختلط عليهم الأمر. والدارس للآيات المذكورة في متى 10 يرى أن المسيح قد أومأ لأول مرة إلى حمل الصليب إعدادًا لإرسال تلاميذه في أول خدمة تبشيرية، فألقى على مسامعهم جملة من الوصايا تغطّي تقريبًا معظم هذا الأصحاح. ومنها ما نطق به عن المسؤوليات المتوجَّبة عليهم ولا سيما حمل الصليب.
ولكن مسؤولية حَمْل الصليب لا تعني إطلاقًا أن الله قد ترك مختاريه بلا عناية أو حماية، بل كانت هذه المسؤولية أو المسؤوليات هي جزء لا يتجزّأ من التلمذة. وقد كان المسيح أعظم مثالٍ لهم في كل حياته إن كان في تعليمه وأعماله، أو في موته وآلامه. وما أجمل هذا العدد الذي جاء في الترنيمة التي تقول عن صلب المسيح: "وقبل أن يَحْملك حملته يا بار."
نعم، إن المسيح في تجسده ورحلته الأرضية لم يحمل صليبه معنويًا أو روحيًا أو نفسيًا فقط، بل حمله أيضًا في الواقع المادي الملموس، ومضى به إلى الجلجثة، وهنا تمّ الاتحاد بين ما هو مادي المظهر وما هو روحي المضمون. إن حمل المسيح للصليب وموته، هما رمزان لحمله خطايا البشرية جمعاء بكل صورها، ومعانيها، وثم توقيع عهد المصالحة والخلاص بالدم المسفوك.
ولكن ما هي الدروس التي نتلقّنها من حمل الصليب؟
يمكن تلخيص هذه الدروس الثمينة في الأمور التالية التي هي من جوهر علاقتنا بالمسيح:

أولاً، إن حمل الصليب، أي المتاعب والآلام، وحتى الموت، تعبير عن الولاء الكامل للمسيح، والتكريس الكلي في نشر إنجيله. وقد يظنّ البعض أن تعليق صليب ذهبي أو فضّي حول العنق هو المقصود من عبارة "حمل الصليب." ومن يعتقد ذلك فقد جانب الصواب.
كان المسيح يتحدّث عن تحمّل المسؤوليات الجسام وعدم التهرّب من المصاعب والاضطهادات أو الآلام التي يمكن أن يتعرّض لها المؤمنون الحقيقيون به. وتاريخ الكنيسة أعظم شاهد على ما بذله شهداؤها في سبيل رفع راية المسيح عاليًا في مختلف العصور السابقة والحالية. ولنتذكّر هنا أن جميع تلاميذ المسيح – حسب ما جاء في تقاليد الكنيسة - قد تعرّضوا للموت باستثناء الرسول يوحنا الذي نُفِيَ إلى جزيرة بطمس وذاق عذاب الاضطهاد.
إن ولاء المؤمنين للمسيح هو فوق كل ولاء آخر.

ثانيًا، إن حمل الصليب هو أمر اختياري. وهذه الحقيقة تشير بوضوح إلى أن الإيمان بالمسيح والتلمذة هما اختياريّان، وليسا واقعَين مفروضين بالقوة. فالمسيح نفسه قد أقدم على تجسّده وآلامه وصلبه وموته، طوعًا واختيارًا. تقول الكلمة المقدسة أنه قد أطاع حتى الموت موت الصليب، والدافع في ذلك هو محبته التي لا تُستقصى. لقد اختار المسيح أن يكون هو ذبيحة الكفارة الذي تَحَمّل مسؤولية الدينونة، فضرب لنا مثلاً أعلى في التضحية. وهنا لا بدّ لي أن أنبّر على أن المؤمن الحقيقي، في اللحظة التي يكرّس فيها حياته للمسيح، يشهد صراحة أنه باختياره قد انخرط تحت لواء جيش فادي البشرية وأن عليه الآن أن يتحمّل مسؤولية هذا الاختيار بكل ما فيه من واجبات. وهو يقوم بذلك بقلب مفعم بالفرح والبهجة لأنه الآن أصبح جزءًا من جيش ظافر يسعى لخلاص النفوس الهالكة. إن إرادة الاختيار في الإيمان المسيحي هي امتياز كل مؤمن وترتبط بحياته الأبدية.
ومن الملاحظ أيضًا أن حَملَ الصليب في اتِّباع المسيح لا يقتصر على وقت دون آخر، بل على المؤمن أن يحمله كل يوم (لوقا 23:9). لأن حمل الصليب في كل يوم هو سمة من سمات التلمذة الحقيقية وليس لهوًا أو تسلية. ولا ريب أن درب التلمذة هذا هو درب واحد لا عودة عنه وإلا يكون صاحبه قد ضلّ في تيه عالم مفعم بالتناقض.

ثالثًا، إن في حَملِ الصليب تضحية كبرى يخشاها الكثيرون. فقد ألمع المسيح في خطابه إلى التلاميذ وسواهم، ولا سيما في إنجيل متى أن الولاء الكامل للمسيح يتطلّب التضحية بكل ما يقف عائقًا في طريق إيمانه. لهذا لا يجوز للمؤمن أن يجعل الأفضلية لغير المسيح، وبالأخص إن كانت هذه العقبات تحول بينه وبين تكريس حياته لمن فداه على الصليب. وعندما قال المسيح: "مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" (متى 37:10-38) لا يقدر أن يكون له تلميذًا لأنه في مواقف الاضطهاد التي يتعرّض لها المؤمن من أعزّ الناس إليه لإيمانه بالمسيح، لم يعطه حق الأفضلية. وهنا يجد المؤمن نفسه في وضع محرجٍ ليختار بين الأهل والأقرباء وبين المسيح؛ بين الرضى الوقتي وبين خسارة الحياة الأبدية، وبين الخوف وبين الحظوة برضى الله. ولكنني أقول: طوبى للذين وُلدوا في بيت مسيحي مؤمن لأن الكتاب المقدس الذي سجّل لنا قول يشوع "وأما أنا وبيتي فنعبد الرب،" يرسم لنا أروع صورة للبيت المسيحي الذي تتناغم فيه أشواق أفراده الروحية.

رابعًا، وأخيرًا إنكار النفس. من أشهر الآيات الواردة في العهد الجديد إشارة المسيح التي ردّدها أمام الجماهير: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه (أي الحياة الأبدية)؟" هناك ارتباط خفيّ بين هذه الآية وإنكار النفس. إن خسارة الحياة الأبدية ترتهن "بالأنا" التي تأصّلت جذورها في الطبيعة البشرية والتي ينجم عنها الكبرياء، والشهوة، والطمع، والغرور، والجشع، وكل ما يرضي الذات ولو على حساب الآخرين. وعندما ألمح المسيح إلى إنكار النفس، كان بطريقة ما يشير إلى تضحيته بذاته إذ أخلى نفسه من كل أمجاده الأزلية آخذًا صورة عبد ليرفع اللعنة عن الإنسان. وأكثر من ذلك، فإن المسيح في تجسده كابن الإنسان قد جُرِّب في كل شيء مثلنا، ولكنه تغلّب عليها كلها، مع أنه نفسه صار خطية من أجلنا بل من أجل خلاصنا.
لقد شدّد المسيح على إنكار النفس في كثير من تعاليمه لأنه أدرك أن "الأنا" هي المشكلة الكبرى في حياة الإنسان لأنها متولّدة عن طبيعته الساقطة. هي ابنة هذه الطبيعة الساقطة وما لم تُستأصَل من حياة الإنسان يتعذّر على صاحبها أن يكون مكرّسًا كليًا للمسيح. هذا لا يعني أن يتحوّل المرء إلى زاهدٍ أو متنسّك لأن الزهد والتنسُّك لا يغيّران من طبيعته، بل عليه أن يولد أولاً من فوق ويصبح خليقة جديدة منقادًا إلى إرادة الروح القدس. هذا ما نراه في موقف المسيح على الصليب إذ أنكر نفسه واستسلم لمشيئة الآب السماوي، فعلى الرغم من آلامه على الصليب صبَّ اهتمامه على اللص التائب، وعلى أمّه، وحتى على الذين صلبوه واضطهدوه. لقد أنكر نفسه إلى المنتهى من أجلي ومن أجلك.
فماذا فعلنا أنا وأنت يا قارئي من أجله؟

المجموعة: نيسان (إبريل) 2016

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

127 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10560284