Voice of Preaching the Gospel

vopg

الدكتور صموئيل عبد الشهيد

لا بد لنا قبل أن نبحث في قضية الإيمان أن نلمّ أولاً بطبيعة هذا المصطلح وتعريفه. فالإيمان بحدّ ذاته، بل في اصطلاحه هو ليس مادة كالحجر أو الحديد أو الذهب، بل هو قوة روحية داخلية مصدرها الروح القدس. فالمملوء من الروح القدس هو حتمًا مملوء بالإيمان أيضًا.

 

فقد ورد في سفر أعمال الرسل 22:11 و24 "فأرسلوا برنابا... لأنه كان رجلاً صالحًا وممتلئًا من الروح القدس والإيمان." فالامتلاء بالروح القدس والإيمان صنوان متحدان في حياة المؤمن، لأن الروح القدس يرشد ويوجِّه، والإيمان يعمل وينفِّذ. وآنئذ لا تستطيع قوى الشر أن تتغلّب على مواجهة جحافل الإيمان الراسخ.

لهذا يطالبنا الرسول بطرس في رسالته الأولى 9:5 أن نكون راسخين في الإيمان لأننا واثقون بأن المعركة ضد الخطيئة بجميع صنوفها وأشكالها، ستتكلّل بالنجاح.

ولكن، ما هو تعريف الإيمان؟ وأي إيمان نقصد. بعد بحث مطوّل، لم أجد أفضل مما جاء في الرسالة إلى العبرانيين 1:11 في تعريف الإيمان باختصار وعمق، ووضوح؛ يقول: "وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى." والواقع، لو كان الإيمان مبنيًّا على أمور تُرى فإنه لن يكون إيمانًا، بل يتحوّل إلى شاهد عيان ويتلاشى هنا عنصر الإيمان. وهذا مما جعل المسيح يطوّب الذين آمنوا ولم يروا لأن الإيمان في مثل هذه الحالة يتطلّب التصديق والعمل به، أي في السلوك والشهادة، بل إنه يقتضي ثقة كاملة بأمر لم يشهده المؤمن بأم عينيه ويرجو تحقيقه؛ موقنا بصدق الوعد. ولكن الأهم من ذلك أن هذا الإيمان محوره صاحب الوعد. فإن اعتقدنا أن صاحب الوعد هو حجر، أو مال، أو أي شيء مادي لا حياة فيه فإن الإيمان يكون باطلاً وينطبق عليه ما نبّر عنه المزمور 4:35-8. إن الإيمان بمثل هذه الآلهة هو إيمان ميّت. ومن الملاحظ أيضًا أن التعريف أعلاه مسرحه عالمنا الذي نعيش فيه وليس العالم الآخر. وإليكم بعض الأضواء على هذه الآية:

 

أولاً لكي نستوعب مضمون هذه الآية ومراميها الرائعة في بنيان الرعاية والكنيسة، علينا أن نقرأ الأصحاح 11 من سفر العبرانيين بكامله لأن لدينا سجلاً كاملاً بأسماء أبطال الإيمان من العهد القديم الذين انطبق عليهم التعريف السابق. فهم عاشوا في غربتهم الأرضية ناظرين من بعيد إلى المدينة السماوية، وقد وثقوا بوجودها، وأنها ستكون ذات يوم موطنهم الأبدي على الرغم مما مرّوا به من تجارب وصعوبات وضيقات. ولكن، كانت لديهم الثقة الكاملة بما يُرجى، وهذه الثقة تشتمل على اقتناع راسخ بتنفيذ حقيقة مستقبلية وعد بها الله فآمنوا بها على الرغم مما كان الواقع يوحي باستحالة حدوثها، وهي أمور لا تُرى بالعين المجردة في الزمن الحاضر، إنما تحقيقها مرهون بالزمن الآتي لأنها لا تقوم على برهان تجريبيّ: إن اليقين هنا متوقّف كليًّا على صاحب الوعد الذي يتمتّع بالسلطان والقدرة على إنجاز مواعيده وإن عجزنا عن رؤيتها في الوجود الحاضر.

 

ثانيًا إن الثقة واليقين اللذين يقوم عليهما الإيمان بوعود الله يُسفران عن نتائج باهرة يتمتّع بها المؤمن والمؤمنة بفضل محبة الله ورضاه، لأن الإيمان الحقيقي يحظى دائمًا برضى الله، ونصبح أحياء بالإيمان (غلاطية 20:2)، إذ بذلك نعيش في المحبة والقداسة (2تيموثاوس 13:7) شريطة أن نكون أصحاء بالإيمان (2تيموثاوس 13:1).

ويحثنا الكتاب المقدس أن نكون أغنياء بالإيمان (يعقوب 5:3) لأن غنانا بالإيمان يكون شاهدًا حيًا على عمق علاقتنا بالمسيح واتكالنا عليه وثبات ثقتنا فيه، بل إننا بفعل إيماننا نستحوذ على التطويب الإلهي كما أشار إليه إنجيل مرقس 6:6 بقوله: "فطوبى للتي آمنت،" أو "طوبى للذين آمنوا ولم يروا"؛ وهذا يشملنا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين.

 

ثالثًا إن حتمية الإيمان مطلب إلهي في خدمة الكرازة ونشر رسالة المسيح. يقول الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: "آمنت لذلك تكلمت"، وهو ترديد لما ورد في المزمور 10:116. إذ كيف يمكن للراعي، أو الواعظ، أو المبشر، أو كل من يشهد عن عمل نعمة المسيح في حياته أن يكرز بكلمة الإنجيل ويدعو الناس إلى الخلاص إن لم يكن قد آمن بما يكرز، ويحياه في كل يوم من أيام وجوده على الأرض؟ ينبغي أن يكون إيماننا تجسيدًا حيًا في أعمالنا وسلوكنا، وثمرًا يانعًا في تصرفاتنا، لا فرق في ذلك إن كان داخل جدران الكنيسة أو خارج أسوراها في المجتمع الذي نعيش فيه. فإيماننا هو المرآة الصافية التي تعكس حقيقة دواخلنا وتنمّ عن ذواتنا الحقيقية التي تكشفها مواقفنا الظاهرة المعبّرة عن نعمة المسيح العاملة فينا. 

أجل، هناك كثير من أدعياء الإيمان ممن يتمتعون بالخطابة البليغة، وفصاحة البيان من غير أن تكون أعمالهم مجسّدة لأقوالهم، هؤلاء ذئاب مفترسة بين قطيع حملان كما قال عنهم المسيح. ويعجبني ما أشار إليه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "ولكنْ بدون إيمانٍ لا يمْكن إرْضاؤه، لأنّه يجب أنّ الّذي يأْتي إلى الله يؤْمن بأنّه موْجودٌ، وأنّه يجازي الّذين يطْلبونه." (6:11) فماذا يكون موقف الله من هؤلاء المدّعين والمخادعين والمرائين؟ إن سلطان الله وشريعته هما اللتان ستسودان في يوم الدينونة عندما تنكشف جميع الأسرار التي خفيت عن الناس فضلّوا وأضلّوا. هل هناك كنائس من كل طائفة بلا استثناء، قد افترستها هذه الذئاب؟ نظرة واحدة سريعة على وضع كثرة من الكنائس ووعاظها وممارساتها وتصرُّف بعض أعضائها تملأ قلب كل مؤمن حقيقي بالأسى والحزن. ولكن شكرًا لله لأن ما زال هناك، في كل طائفة من يعيشون للمسيح، ويحيون إيمانهم، ويمجدون الله في سيرتهم.

في رسالته الأولى يلمع الرسول يوحنا إلى فاعلية الإيمان في الغلبة، يقول: "لأنّ كلّ منْ ولد من الله يغْلب الْعالم. وهذه هي الْغلبة الّتي تغْلب الْعالم: إيماننا. منْ هو الّذي يغْلب الْعالم، إلاّ الّذي يؤْمن أنّ يسوع هو ابْن الله؟" (1يوحنا 4:5-5)

هذه إشارة صارخة تعرب على أن غلبة إيماننا وانتصارنا مصدرهما إيماننا بالمسيح، بل أن يسوع هو ابن الله. فكل راعٍ وكل كنيسة تعلن هذا الشعار بإيمان ثابت وراسخ تتوافر لها الغلبة على العالم وعلى رئيسه إبليس، لأن الانتصار قد تجلّى بالصليب على إبليس، والخطيئة والموت، وكل كنيسة حية هي الكنيسة التي صُلبت مع المسيح وقامت معه وانتصرت بانتصاره.

 

رابعًا إن الإيمان هو ترس علينا أن نحمله دائمًا في معركتنا مع العالم. يؤكد الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس على هذه الحقيقة الساطعة بقوله: "حاملين فوق الكل ترس الإيمان، الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة." (أفسس 16:6)

تأمل معي بهذه الآية التي تدعونا دائمًا أن نكون ساهرين متمنطقين بترس الإيمان الذي نصدّ به سهام الشرير الملتهبة التي يسددها إلينا، ويرشق بها الرعاة بخاصة، لأن في سقوط الراعي يتبدّد القطيع. ومما يلفت الانتباه في هذا النص الخطير عبارة "فوق الكل"، أي فوق كل الأسلحة المختلفة التي سبق ذكرها. يشدد الرسول على ترس الحماية الذي يردّ عن المؤمن، راعيًا كان أو عضوًا، سهام التجارب، لأن هذه السهام تتكسّر على صلابة ترس الإيمان وتتعطل فاعليتها، إذ يثبت على صخرة مواعيد الرب ويثق بكلمته وسلطانه.

وفي هذا السياق، يشير الرسول بولس أيضًا إلى درع الإيمان (1تسالونيكي 8:5)، ويختلف الدرع عن الترس بأن وظيفته حماية الجسد مباشرة من ضربات السيوف والنصال، بينما الدرع يحمله الجندي بيساره ويوجهه كما يشاء حين يتعرّض لسهام العدو أو لسيفه. فدرع الإيمان له أهميته الكبرى في حماية وستر أعضاء الجسم الحيوية؛ وكل من الترس والدرع يشتركان معًا في وظيفة الحماية. والراعي، وكل مؤمن يحتاج إلى هذين السلاحين الدفاعيين ضد مكائد إبليس التي تهاجمنا في كل لحظة من لحظات حياتنا. ولقد أدرك الرسول بولس ضرورة هذه الأسلحة في الثبات أمام ضربات العدو، وأضاف بصورة خاصة السيف الذي هو كلمة الله في صراعنا الدائم والدائب في جبهة القتال، ونحن نسير في موكب نصرة المسيح.

وقصارى القول، إن الإيمان الواثق هو طاقة فاعلة حيّة في حياة المؤمنين، لا فرق في ذلك بين رعاة وأعضاء، ولا سيما في أثناء الشدة والتجارب إذ أن القلوب والعيون الروحية تنصبّ آنئذ على رئيس الإيمان ومكمِّله الرب يسوع المسيح القابض على زمام حياتنا. إنه وحده بقوة سلطانه اللامحدود يستجيب بالإيمان طلباتنا لمجد اسمه القدوس.

المجموعة: آب (أغسطس) 2016

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

71 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10540297