Voice of Preaching the Gospel

vopg

ألقى جمال نظرة أخيرة على شقته التي ابتاعها منذ أربع سنوات عندما تزوّج من فتاة أحلامه سعاد التي تعرّف بها في الصفوف الجامعية في مدينة بيروت.

وبعد أن تخرّجا وعثرا على وظيفتين محترمتين، وعاشا معًا لمدة سنتين ملأ فيهما الحبّ قلبيهما. وظنّا معًا أن الحياة قد غمرتهما بعطفها وحنانها، فشرعا يخطّطان لمستقبل السنوات القادمة.
ولكن، سرعان ما اكتشفا أن الزمن كان يُضمر لهما من المتاعب والأوجاع ما لم يكونا يتوقعانه، فانقطعت سعاد عن متابعة التعليم وانزوت في الشقة إذ شعرت بآلام حادة تنهش في صدرها فذهبت لاستشارة طبيب مختص بالأمراض المعوية. وبعد أن أجرى لها الفحوصات أخبرها بصوت مفعم بالأسى أن هذه الأوجاع ناجمة عن إصابتها بمرض السرطان برئتيها وهو لا يستطيع أن يجري أيّ عملية وعليها أن تذهب لزيارة طبيب مختص فلعلّ لديه ما ينقذها من مثل هذا الداء الخطير.
كانت هذه الأنباء الطبّيّة مثار خوف ورعب في حياة كلٍّ من جمال وسعاد، فأسرعا يبحثان عن طبيب مشهور مختص بداء السرطان، وعندما اجتمعا به، وبعد إجراء جميع الفحوصات أخبرهما الطبيب إن هذا الداء قد استشرى شرّه، وأنه لا رجاء لها في الشفاء منه، وقال: إن أيام حياتها باتت معدودة.
فسأله جمال:
- كم هو عدد أيامها هذه؟
- أسبوعان أو ثلاثة أسابيع على أكثر تقدير.
سرت رجفة في أعصاب جمال حاول أن يخفيها عن عينيّ سعاد، غير أن ملامح وجهه والرعشة التي حاول أن يكتمها، أثارت في نفس سعاد الشك والحيرة فسألت زوجها:
- ماذا قال لك الطبيب عندما سألته عن مدى انتشار هذا السرطان؟
حاول جمال أن يتمالك روعه وأجاب:
- إنّه متطوّر ويتطلّب عناية فائقة.
وفي طريق عودتهما إلى البيت خيّم عليهما الصمت، وبدا على جمال وكأنه ضائع عن العالم الذي يضجّ حوله. كان يقود السيارة بصورة تثير القلق وحاول أن يكتم عبراته، وأن يتمالك نفسه ليُكبت الانهيار الداخلي الذي أصابه. وعندما بلغا الشقة، وأوَتْ سعاد إلى سريرها قال لها:
- ارتاحي قليلاً، ومن ثمّ يمكننا أن نتحدّث عمّا يمكن عمله.
لجأت سعاد إلى سريرها واهنة الأعصاب وحاولت أن تنام قليلاً ولكنها لم تستطع أن يغمض لها جفن. كانت تشعر في أعماقها أن أيامها باتت معدودة، وأحسّت أنّ دنياها قد أصبحت عالمًا مظلمًا مشرفًا على نهاية المطاف. فلماذا حدث هذا لها، وأي ذنبٍ جنته ضدّ مشيئة الله؟ بل لماذا سمح الله أن تُصاب بهذا الداء الرهيب؟ غير أنها لم تجد جوابًا لسؤالها. وعندما سمعت بخطى زوجها تقترب من حجرة النوم أسرعت تمسح دموعها، وتغمض أجفانها وكأنها غارقة في سبات عميق.
وانقضت نحو ثمانية أيام قبل أن تفارق سعاد هذا العالم الموبوء.
كانت النكبة قد داهمت جمال بظلّها الكئيب فباع الشقّة، واشترى شقة جديدة في منطقة أخرى من المدينة أصبحت له المقرّ الرئيسِ لخلوته والمحراب الذي يقضي أوقاته فيه، وتوقّف عن حضور اجتماعات الكنيسة إلاّ في القلّة النادرة، وشرع يزور في بعض الأحيان بعض أماكن اللهو لعلّه ينسى بعض همومه وأحزانه، ثم يعود إلى شقته منطويًا على نفسه يحلم في ماضيه الذي تمزّقه ذكرياته، ويعيش في كآبته.
وذات يوم جلس على مقعد في شرفة منزله، وحاول أن يقرأ في كتاب، غير أن أنظاره وقعت على صليب قائم على برج الكنيسة الذي كان يتألّق تحت أشعّة الشمس الدافئة، ولم يدرِ آنئذ كيف حمله مشهد الصليب على الاستغراق في التفكير بمشهد الصليب الذي عُلّق عليه المسيح الطاهر البريء. وهو الذي لم يرتكب إثمًا أو يقترف جريمة. بل أكثر من ذلك، على الرغم من آلامه وأحزانه، فإنه في أشدّ لحظات وأوجاعه، تناسى كل شيء، وعمد إلى طلب غفران خطايا الذين صلبوه، ورحّب باللص التائب وأمّن له الحياة الأبدية. وتساءل في نفسه: كيف استطاع المسيح أن ينسى نفسه وأوجاعه وسوء معاملته ويغفر خطايا الذين أساؤوا إليه وعذّبوه وصلبوه؟
حاول أن يستوعب طبيعة هذه المعجزة التي أقدم عليها المسيح، وكيف أنه تحمّل كل هذه الآلام والنكبات وهو البريء الذي جاء لخلاص الجنس البشري. غير أن عقله المتعب، وخواطره التي حاولت أن تكتشف هذا السرّ أخفقت في معرفة مغاليقه. وهزّ رأسه وكأنه يحاول أن ينفض هذه الأفكار عن نفسه ويلقي بهذه الهواجس في ظلمات عذابه وأحزانه، ولكنه أخذ يشعر بقسوة ضغطها، وكأنها تحثّه على التفكير. وأخيرًا نهض عن مقعده، ودخل إلى حجرة الاستقبال وكأنه يهرب من هذه الخيالات التي راحت تهاجمه: ما هي جريمة المسيح التي ارتكبها، وعرّضته للأوجاع؟ ولكن المسيح لم يرتكب إثمًا، ولم يؤذِ أحدًا. فلماذا تعرّض للصلب والموت والشنيع؟ تمامًا مثل زوجته سعاد، فإنها لم تؤذِ أحدًا، بل كانت سيدة مؤمنة تحب الرب وتخدم في الكنيسة، فلماذا هاجمها مرض السرطان الذي أفضى بحياتها سريعًا؟ أغمض جمال عينيه، وذرفت من بين أجفانه عبرات الحزن، وغمغم: لماذا حدث لي يا ربّ كل هذا؟ ولماذا كان على سعاد أن تتألّم، وتقاسي الأوجاع وهي لم تسئْ إلى أحد، أو ترتكب إثمًا؟
وكأنما هذه الهواجس التي أخذت تهزّه من جديد وجعلته مستغرقًا في أفكاره وكأنه في دنيا أُخرى تختلف عن دنيا الناس، وفي نحو الساعة العاشرة والنصف ليلاً ألقى بنفسه إلى سريره واستغرق في نوم عميق.
وفي نحو الساعة الواحدة بعد منتصف الليل خُيّل إليه أنه يشهد رؤيا أثارت دهشته وحيرته. خُيّل إليه أنه يسير في جنّة بهجة تزدهر بالورود والأشجار الرائعة، والمياه الصافية الجارية في رياضها، فأخذ يتجوّل بين مناظرها الطبيعية، فشاهد كثيرًا من الأولاد، والبنات والسيدات والرجال يتمتّعون بمشاهدها، فأخذ يبحث بين هذه الوجوه لعلّه يرى وجه زوجته سعاد، ولكنه لم يعثر عليها بين هذه المجموعات المنتشرة في هذه الجنّة، فاعتراه الحزن، وأخذ يتساءل: أين سعاد؟ لماذا لا أراها هنا؟ أهي موجودة في مكان آخر؟
فجأة شاهد ملاكًا يقف تحت ظلال شجرة فيحاء، فاقترب منه وسأله: أتعرف يا سيدي أين يمكن أن أعثر على زوجتي سعاد؟
تطلّع إليه الملاك وكأنه يحاول أن يكتشف سرّ هذا الغريب الذي جاء يبحث عن زوجته وهو لم يمت بعد، فسأله:
- كيف دخلت إلى الجنّة وأنت لم تمت بعد؟
- لست أدري يا سيدي، فقد ذهبت إلى سريري لأنام فوجدت نفسي بعد قليل أتجوّل في رياض هذه الجنّة، فهل تعرف أنت أين يمكن أن أجدها؟
ابتسم الملاك وأجاب:
- اعتقد أني أعرف أين هي، وماذا تفعل. انتظرني هنا لحظة قصيرة.
اختفى الملاك في رحاب الجنّة، ثم لم يَلبث أن عاد برفقة فتاة باهرة الجمال ترفّ على شفتيها ابتسامة مشرقة وتبدو الدهشة في عينيها وسألته:
- منذ متى وأنتَ هنا؟
- لست أدري، وإن كنت أعتقد أنني جئت هذه الليلة. وأنتِ ماذا تفعلين أنت هنا؟
- أدرّب الأولاد على الترانيم كما كنت أفعل في الكنيسة. كيف جئت إلى هنا؟
لست أدري. فقد ذهبت لأنام ثم فاجأت نفسي بوجودي هنا.
فقال له الملاك:
- لا. لم يحن وقتك لتقيم هنا في بيتك الأبدي. عليك أن تنتظر أولاً وتثبت أنك تستحقّ أن تكون من أبناء الملكوت.
فجأة أحسّ جمال وكأن هناك شخصًا ما يوقظه من نومه، ففتح عينيه ببطء، ثم جلس في سريره يتلفّت حوله ليستيقظ من الرؤيا، وانطلق إلى حجرة مكتبه يبحث عن كتابه المقدس، ليبدأ من جديد دراسته اليومية وخدماته في أرجاء الكنيسة من قلبٍ مستيقظ، ونفسٍ متشوّقة للحياة الأبدية.

المجموعة: نيسان (إبريل) 2022

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10628280