Voice of Preaching the Gospel

vopg

شباط (فبراير) 2009

يا صديقي، ها نحن نحتفل في فصل الأعياد في المغترب. احتفلنا بعيد الشكر، وعيد الميلاد، وعيد رأس السنة الجديدة. وعلى الرغم من أهمية الأعياد وما تشتمل عليه من مغاز هامة، وما ترمز إليه من أحداث لها أبلغ الأثر على حياتنا كمؤمنين ولا سيما ما يشير إليه عيد الميلاد، فإن كثيراً منا يمرّ في أزمات نفسية وعاطفية وحتى فكرية في هذه الأوقات من السنة. ويمكننا أن نضع هذه الأزمات ونصنّفها تحت الشعور بالانقباض.


ولا تحسُبنّ يا صديقي أن هذا الشعور غريباً، أو خطيئة لأنه له أسبابه الشرعية؛ هذه الأسباب التي تولّد في النفس إحساساً مبهماً أو واضحاً في النفس. فقد تكون هذه الأسباب موغلة في أعماق النفس، متوارية وراء أستار لا نريد أن نميطها بل نبذل كل جهدٍ لكي نقيم الحواجز بينها وبيننا، لأننا نخشى التفكير بها ونسعى للهرب منها؛ أو قد تكون هذه الأسباب جلية تستأثر بكياننا ولا سيما في فصل الأعياد، وتظل ماثلة أمامنا، تفثأ دوماً جروحنا، وتفجّر فينا الذكريات، فتغمرنا آنئذ كآبة أليمة تنعكس على تصرفاتنا ومواقفنا مهما حاولنا أن نخفيها عن الناس. وفي هذه المقالة الموجزة أود أن أورد بعض الأسباب التي يمكن أن يتعرّض لها كل إنسان في وقت من الأوقات إبّان حياته الأرضية. ولكن حديثي سيقتصر على المؤمنين الذين يقاسون من هذا الشعور بالانقباض إذ لا أحد لديه المناعة ضد هذه الأزمات.
بادئ بدء علينا أن نتذكّر أننا بشر تعترينا مشاعر مختلفة تتوافق مع الظروف التي نمرّ فيها من حزن وفرح، من غبطة وأسى، من احتجاج وقبول، وغيرها من المواقف التي لا بدّ أن تلازمنا في هذه الحياة. كذلك إننا عرضة للذكريات التي تتراكم في أذهاننا على كرّ الأيام والتي نحياها كلما أُتيحت لها الفرصة أن تشرئبّ برؤوسها فنجد أنفسنا في لحظة ننتقل من الحاضر إلى الماضي نجترّ فيه الذكريات بأفراحها وأتراحها، ويتوارى الواقع خلف غيوم الزمن الغابر. وقد يدهش البعض إذ يراني أردّد أن الذكريات المفرحة قد تبعث على الوجوم إن كنا نعاني من حاضر تعسٍ؛ فالمقارنة بين سعادة الماضي وبؤس الحاضر تخلق انقباضاً موجعاً قد يفضي إلى اليأس أحياناً. هذا اليأس الذي على المؤمن تفاديه.
والآن لنتأمل ببعض الأسباب التي تخلق الكآبة ولا سيما في فصل الأعياد؛ ومن حيث أن هذه الصفحات لا تتّسع لاستعراضها كلها فإنني سأوجزها بثلاثة أسباب:
أولاً: تفسُّخ العائلة
في مجتمع تغلب عليه شرائع الطلاق كالمجتمع الغربي، ويفتقر إلى حدٍّ كبير إلى قدسية الزواج، وتتحوّل التعهدات إلى حبرٍ على ورقٍ، تتعرّض العائلة إلى تفسّخ ونزاعات تسفر في أكثرها عن طلاقات مقيتة، وقد تكون لدواعي واهية. ويخلق هذا التفسّخ بمناسبة الأعياد أجواء كئيبة تخيّم على أجواء الأسرة وتترك خواء ليس في حياة الزوجة فقط، بل إن الأولاد يعانون من حسّ الفراغ أيضاً. فكما يحتاج الأبناء والبنات إلى حضور الأم الفعلي في حياتهم كذلك يحتاجون إلى وجود أب محبّ يرعاهم بعنايته، ويغدق عليهم من حبه وحنانه. إن الفراغ الذي يخلّفه الوالد أو الوالدة في حياة العائلة لا يقتصر على الحاضر بل يمتدّ إلى المستقبل، وتظل آثاره ماثلة في حياة أفراد الأسرة إلى زمن طويل. ويزداد الشعور بالفراغ، والإحساس بالوحدة في فصل الأعياد لأن الروابط العاطفية يتعذّر أن تفنى. فالتحلّل الذي يعتري الأسرة المتفسّخة في مثل هذه الأحوال يتضخّم في عقول المعرّضين لمثل هذه المشاعر فتتفاقم كآبتهم تحت وقع انهيار أحلامهم.
ثانياً: الموت
إن انتقال أحد أفراد العائلة من أرض الفناء إلى أرض البقاء يولّد في النفس الشعور العميق بالوحدة، لا فرق في ذلك بين المؤمن وغير المؤمن، لأن الأحاسيس الإنسانية لا تختلف من أمة إلى أمة. قد يكون أسلوب التعبير عنها مختلفاً ولكنها في جوهرها هي متماثلة تستأثر بكيان الإنسان. فالزوجة التي فقدت زوجها في الصين تقاسي من نفس المشاعر التي تقاسيها الزوجة العربية، والآلام التي يعاني منها الزوج في الغرب هي ذاتها التي تساور الزوج في الشرق. والشعور بالضياع الذي ينتاب الأيتام في آسيا هو نفس الشعور الذي يختلج في قلوب أيتام أفريقيا. وعندما تلمّ هذه الفواجع بالأسرة ولا سيما في فصل الأعياد يتولّى النفوس تلك الأجواء الكئيبة التي تبعث على الحزن والانقباض. أضف إلى ذلك أن “فعل” عالم الذكريات في هذه المناسبات يتحكم بقوة في تصوراتنا، وآمالنا التي تحقّق بعضها وخاب بعضها الآخر. ويضرم عامل التمنّي أشواقاً ما برحت جذوتها تحت الرماد فتلتهب فجأة وتبدأ حلقات الماضي تتراءى في خيال المرء كشريط سينمائي. وكلما كانت العلاقة الزوجية، مثلاً، مفعمة بالسعادة فإن الفراق يكون أقسى وآلم. وفي فصل الأعياد يختلط الماضي بالحاضر، وتتقاذف المشاعر قلب الإنسان فتغمره تلك الكآبة التي جاهد كثيراً في التهرّب منها. يدرك المؤمن أن الموت هو حالة انتقال من عالم إلى آخر كمن يمخر عباب المحيط من شرق الأرض إلى مغربها، وما الموت سوى الجسر الذي نعبره. ولكننا عرضة لتلك المشاعر الناجمة عن الفراق لعلمنا أن أحباءنا قد غابوا عنا ولو لزمن قد يطول أو يقصر وخلّفوا في نفوسنا ذلك الفراغ الذي لا يملأه أحد سواهم. وتحت وطأة هذا الفراق الموجع تعتورنا الوحدة القاتلة التي لا مناص منها.
ثالثاً: الشعور بعبثية الحياة
وهذا الشعور من أخطر ما يمكن أن يعتور الإنسان في مصطرع الحياة لأن هذه العبثية تُجلْببُ نفوسنا بأكفان قاتمة تحجب عنّا الرجاء الذي لنا في المسيح. لا تعجبنّ يا صديقي من قولي هذا، فالويلات التي قد تصيب بعض المؤمنين فد تبعث في قلوبهم الشعور باليأس، فليس كل مؤمن هو أيوب في صبره واحتماله، بيد أن هذه النكبات، وإن كان من شأنها أن تزرع بذور الشك في عقولنا، فإنها أحياناً تجعل المؤمن يتساءل عن معنى وجوده في هذه الحياة، وهل خلقه الله لكي يرزح تحت أعباء هذه الآلام المبرحة. لا ريب أن الإحساس بالعبثية أو العدمية هو إحساس سلبي يتولّد عن مرارة النفس، والاعتقاد أن الله قد تخلّى عن الإنسان، وإلا ما باله عرضة لكل هذه الكوارث التي تحيق به. إن مثل هذا التفكير لا بُدّ أن يثير الشعور بالكآبة في فصل الأعياد فيستبدّ به الانطواء وتكبّله أصفاد الانقباض.
ولكن يا صديقي، لا بُدّ لي في ختام هذا المقال أن أقول: إننا كمؤمنين، وإن كنا نمرّ في بوتقة المصائب والآلام كغيرنا من الناس، نختلف عنهم بكوننا أبناء الملكوت. وأبناء الملكوت هم أولاد الله الذين يحبهم، ويتراءف عليهم وإن بدا لهم أن يد الرب كانت ثقيلة عليهم. غير أن لله مقاصد في حياة كل منّا قد نجهلها الآن لأن طرق الرب ليست كطرقنا، وأفكاره ليست كأفكارنا. ومن الخطأ أن نستسلم لمشاعرنا الذاتية المتقلّبة ونعزو الظلم لله. إن الله لا يحاسبنا على أحزاننا وآلامنا وشكوى نفوسنا، ولكنه لا يُسرّ بتنكّرنا له أو اتهامه بالقسوة والظلم. هو مطّلع على أنّات قلوبنا لأنه أبونا السماوي، ولا بُدّ أن يمسح دموعنا ويضمّد جراحنا ويحملنا على ذراعيه الأبديتين بكل رفق وعطف، وسيأتي ذلك اليوم المجيد الذي نكتشف فيه سر ما عانينا منه من ويلات وعذاب ونطلع على حكمة الله من وراء ذلك.
وكذلك أيضاً علينا أن ندرك يقيناً أن الكتاب المقدس مفعم بالمواعيد التي يذّخرها لنا الله لمثل هذه الحالات التي نجد فيها أنفسنا في وحدة قاتلة يخيّم علينا الشعور بالانقباض والحزن.
هناك ترنيمة رائعة باللغة الإنكليزية تعبّر عما يجب أن تكون عليه مواقفنا عندما تعصف بنا نكبات هذا الدهر، وفي عددٍ منها يقول المؤلف:
كم مرة عندما كنت أصارع في معترك المتاعب، أو كان العدو يهاجمني
انطلقت إلى ملجأي (الله) وأسررت إليه بما أصابني من ويلات
كم مرة عندما اكتنفتني الأحزان كأمواج البحر الهائجة
فلذت بك، أنت يا صخرة نفسي
في مثل هذه الظروف التي تصطرع حولنا أنواء المصائب لا بدّ لنا من ملجأ نلوذ به لا تستطيع فيه الملمّات أن تنال منا أو تؤذينا. عندما كان الملك داود يقاسي من نوائب الزمان هتف في مزمور 1:61-3 “اسمع يا الله صراخي واصغَ إلى صلاتي. من أقصى الأرض أدعوك إذا غشي على قلبي. إلى صخرة أرفع مني تهديني. لأنك كنت ملجأ لي. برج قوة من وجه العدو”.
إن العدو الذي يتحدّث عنه داود هو رمز لكل ما ينزل بنا من مآسي الحياة، خطيئة كانت أم مصائب... لا مهرب منها إلا باللجوء إلى الرب، فتمتدّ يده القوية وتنتشلنا من هوة الانقباض والكآبة والخوف والقلق. في مثل هذه اللحظات التي ينتابنا فيها الإحساس بالخواء والضعف علينا أن نرفع أنظارنا إلى الجبال من حيث يأتي عوننا، بل نقول مع صاحب المزامير:
“يا قوّتي لك أرنّم، لأن الله ملجأي إله رحمتي” (مزمور 17:59).
أجل يا صديقي، إن ما يميّز المؤمن عن سواه هو ذلك اليقين بأنه لن يكون وحده في أثناء مداهمة الفواجع. بل إن المسيح سيقف إلى جواره بل يحمله على ذراعيه عندما يعتريه الوهن فيعجز عن خوض معترك النضال. لقد وعد المسيح المؤمنين به أن يكون معهم وإلى انقضاء الدهر، أي في جميع تقلبات الحياة حتى في لحظات الموت.
نقرأ في مزمور 23 قول النبي:
“أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي”. حقاً إننا كلنا عرضة للأزمات النفسية والعاطفية وحتى العقلية؛ كلنا تستولي علينا الكآبة والانقباض ولا سيما في فصل الأعياد، ولكن علينا أن لا ننسى أن الله هو ملجأنا وحصننا المنيع الذي به نحتمي، والذي يردّ عنا هجمات العدو، ويسدّ الثغرات الضعيفة التي يحاول الشيطان أن ينفذ منها إلينا ليملأنا بالقنوط والشقاء.
أجل يا صديقي القارئ، إن الله لن يحاسبنا على أحزاننا وحتى على شكوانا على أن نتفادى في كفاحنا مع الحياة التمرّد عليه واتهامه بالظلم... بل نتكل عليه في كل حين.

المجموعة: 200902

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

210 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10553284