Voice of Preaching the Gospel

vopg

نيسان (إبريل) 2008

- ما رأيك بالمسيح الذي أحب وسامح في سبيل خلاص الإنسان، ثم لم يلبث أن جابه الموت بجرأة أذهلت التاريخ؟

وإذ انتابني إحساس من الحيرة، أدرك السيد براون أن طيّ صفحة هذا الحديث، آنئذ، أجدى بالنسبة لي، لأنني وجدت نفسي في موقف ما كنت أظن يوماً أني أقع فيه. فهذا الصحفي العملاق يتحدث بكل بساطة عن إيمانه بالمسيح، ويرى في ضعف المسيح القوة الظافرة، بل إنه يرى أن الإيمان هو امتياز رفيع، وطوبى لمن يؤمن. ولو كان غير السيد براون هو الذي يحدثني لهزأت به كما كنت أفعل فيما مضى..

 

في تلك الليلة أرقني سهاد تمزقه خواطر لا أدري كيف تسللت إلى راسي. ولعلي لأول مرة رحت أفكّر بالدين جدياً، وأحاول أن أتقرّى سرّه، ومدى تأثيره في نفس الإنسان. فأنا مسيحي: هكذا تقول تذكرة هويتي. ولكن أي شيء في حياتي ينمّ عن مسيحيّتي؟ أهو اسمي؟ كان في الإمكان أن يكون اسماً هندياً أو صينياً أو مغولياً. فالاسم لا يعني شيئاً على صعيد الإيمان.. أهي أعمالي؟ وهنا شرعت اجتذب إلي خيوط الماضي، أبحث عن سجل حياتي بمآتيه وأفعاله، ولشدّ ما راعني أن ألمح بعض ما قمت به مما يندى له الجبين.. وقلت في نفسي: إن المؤمن المسيحي لا يمكن أن يرتكب هذه الحماقات.. ومرة أخرى تساءلت:

- أهي حماقات أم معاصٍ؟

وكأنما كان تساؤلي هذا تعرية للخطية التي تلفعت بأسماء مختلفة، وبدا لي أن عقليّتي الصحفية أخذت تلعب دورها في التأثير على نفسي. أوليس جوهر الحياة الصحفية يكمن في البحث عن الحقيقة والسعي وراءها؟ هكذا قالوا لنا في المعهد، وهذا ما نبتغيه في هذه المهنة. فإن كان عليّ، في حياتي اليومية، أن أقتنص الحقائق، وأنقّب عنها فلِمَ أتغاضى عن البحث الجدي في موضوع يرتبط به مصيري الأبدي؟ هذا إذا كان هناك حقاً مصير أبدي.

وتساءل المحرر بصوت تشوبه مسحة الوجل:

- وهل عثرت على الحقيقة يا سيدي؟

وقبل أن يجيب ”كمال يونس“ عاد إلى مقعده، وتراجع بظهره إلى الخلف، ثم قال بصوت بطيء:

- الحقيقة! نعم عثرت عليها، ولكن لقاء ثمن باهظ...

- كيف؟

وخيل للمحرّر أن سحابة كئيبة مرّت على محيّا ”كمال يونس“، ما لبث أن غرق في ضبابها؛ وانقضت لحظات قبل أن يقول:

- في صباح اليوم التالي لم أخرج من قمرتي لأنني كنت مرهقاً. فلقد قضيت معظم الليل أرقاً، ولم يغمض لي جفن إلا في بواكير الفجر. ومن ثم استيقظت في ساعة متأخرة،ومكثت في سريري، تناوحني أفكاري  مبهمة فأهرب منها تارة، وأتصيّدها تارة أخرى. ولكن عند الظهيرة كان لا بد أن أنهض، إذ أحسست بأنياب الجوع تنهش أمعائي، فارتديت ثيابي ومضيت إلى قاعة الطعام. وتلفّتّ حولي أبحث عن السيد براون وزوجته فلم أجد لهما أثراً، ولعني شعرت بالارتياح لغيابهما لإحساسي العميق بالضياع، فما كان في وسعي أن أفكّر بوضوح.

وبعد أن تناولت وجبة الغداء، وحيداً، صعدت إلى سطح السفينة، فشاهدت عدداً من الركاب مبعثرين على مقاعد متناثرة يتحدثون أو يقرأون أو يتأملون، فأخذت أتجوّل بين الناس لبرهة، ثم توقفت عند مقدمة الباخرة أحدّق إلى مياه البحر الزرقاء. ولم يمضِ عليّ زهاء دقائق حتى سمعت صوتاً خلفي يخاطبني:

- أيذكرك البحر بشواطئ بيروت؟

فأجفلت لأنني لم امن أتوقّع من يعكّر عليّ صفاء خلوتي، ولكن قبل أن ألتفت خلفي أدركت أن هذا الصوت هو صوت السيد براون. وحين التقت عيناي عينيه قرأت فيهما ابتسامة حانية تشع ببريق محبة. وقلت له:

- أين السيدة براون؟ أهي..

- إنها متعبة قليلاً من دوار البحر.

ثم تطلّع صوب الغرب وقال:

- هل سمعت نشرة الأحوال الجوية؟

- لا

- ستهب عاصفة قوية في هذا المساء.

وقبل أن يتمّ حديثه، ارتفع صوت القبطان من خلال مكبّر الصوت:

- أرجو من جميع المسافرين ملازمة قمراتهم في هذا المساء لأن عاصفة هوجاء ستهبّ بعد الغروب بقليل. شكراً.

ورأيت السيد ”براون“ يتأمل السماء الزرقاء ويقول:

- من يصدق أن هذا الأديم الأزرق الصافي سيكفهرّ بسحائب الغضب وأن هذا البحر الهادئ سيثور حنقاً.

فأجبته:

- كالحياة.

فرمقني بنظرة مفعمة بالإدراك وقال:

- كالحياة! ربما، ولكن الأهم هو الثبات.

- ماذا تعني؟

- اسمع. عندما تبني سفينة فأنت تسعى لكي تكون سفينة متينة قادرة على مقاومة العواصف والثبات أمام الأنواء.

- هذا صحيح.

- وقوة السفينة وثباتها يتوقّفان إلى حدّ بعيد على كيفية بنائها والمواد التي صُنعت منها.

- ماذا تقصد؟

- إن جوهر الحياة المسيحية هو الإيمان بالمسيح، والإنسان المؤمن يبني حياته على هذا الجوهر، ومهما تقلّبت به عواصف الحياة أو أحدقت به المصائب فإنه يثبت أمامها كالبيت المشيّد على الصخر.

وفجأة تطلّع إلى ساعته وقال:

- اعذرني يا صديقي، عليّ أن أعود إلى زوجتي لعلّها في حاجة إليّ.

ولاحقته بنظراتي إلى أن غاب عن عينيّ. وكأنما هذا الحديث جعلني أستشرف على آفاق جديدة تفتّحت في خيالي كالرؤيا، واكتنفني إحساس بالانقباض، غامض، أثار في نفسي مزيداً من القلق، والشعور بالغربة.

وعدت أتجوّل بين الناس على سطع الباخرة، أنتقل من مقدمتها إلى مؤخرتها، ورأسي مسرح هائل لخواطر تفجرت فجأة في أعماقي كبركان تغلي في جوفه الحمم، إلى أن شعرت بالتعب، فرجعت إلى قمرتي، واستلقيت على سريري، غارقاً، من جديد، في أمواج من الحيرة، والكآبة، وراحت صور الماضي، بأصباغها وأبعادها، تتجسد أمام عينيّ، تتشابك أحياناً حتى التعقيد، وتبهت أحياناً أخرى حتى تنطوي في المجهول، وفجأة لاحت لي حادثة، عبر الزمن، جرت لي في طفولتي في مدرسة القرية. فذات يوم استدعاني الكاهن إلى حجرته وقال لي:

- إنك لم تأتِ للاعتراف منذ زمن بعيد، لماذا؟

فشعرت بالخوف يعتريني، وقلت له:

- إنني، إنني يا ”أبونا“..

- ألا تعرف أن من يتخلّف عن الاعتراف سيتعذّب في جهنّم؟

فامتلأ قلبي بالرعب وأخذت أرتجف، وقلت:

- لا يا ”أبونا“ سأعترف هذا الأسبوع.

فنظر إليّ بعينين حانقتين وقال:

- إياك أن تتأخر مرة أخرى عن الاعتراف، سأنتظرك هذا السبت..

وبقيت أعترف في كل سبت خوفاً من عذاب جهنم إلى أن بلغت سناً تحررت معها فيه من رعبي، ولم أعد أحفل بالاعتراف أو حتى بالذهاب إلى الكنيسة... ولكن ها هو الخوف يعاودني من جديد، لا من غضب الكاهن عليّ لأنني لم أعد أعترف في كل سبت، إنما لأنني شرعت أفكّر حقاً بمصيري الأبدي. وأي حديث، مثل هذا الحديث، مع السيد ”براون“ لا يثير في النفس هذا القلق والخوف! بل إن الثقة التي تفعم قلب السيد ”براون“ تبعث في نفس امرئ مثلي إحساساً غريباً باللإنتماء؛ وكأنما وشائج الصداقة التي تربطني بالناس والأقرباء لم يعد لها معنى لأنها تخفق في استئصال هذا القلق المؤلم من ذاتي.

يتبع في العدد القادم

المجموعة: 200804

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

83 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10541306