Voice of Preaching the Gospel

vopg

تشرين الثاني (نوفمبر) 2008

يعاني العالم في هذه الأيام من ضيقة اقتصادية مخيفة. وما من بلد، في الشرق أو في الغرب، حتى الدول المنتجة للنفط، إلا واعتراه القلق على وضعه الاقتصادي، وأسرعت الحكومات، في محاولات يائسة لمعالجة هذه الأزمات بوسائل مختلفة لإنقاذ أسواقهم وبنوكهم من التردي في البؤس الاقتصادي.


وفي قاموس عالم الاقتصاد تتردد بعض المصطلحات التي تثير الخوف والانزعاج في قلوب خبراء الاقتصاد، ووزارات المالية، والعاملين في أسواق البورصة لأنها من ظواهر الخطر الداهم الذي يسبب الرعب في نفوس المساهمين، والشركات. وهناك ثلاثة مصطلحات على الأقل يتمنى خبراء الاقتصاد تفاديها وهي: الإفلاس، والكساد، والانهيار الاقتصادي.
وما من أمة منيت بمثل هذه الأزمات إلا وفقدت مركزها في السياسة العالمية، وتلاشى نفوذها العسكري، وانخفض تأثيرها على سير الأحداث التي تلعب دوراً كبيراً في تطور الأمم والشعوب. هذا على الصعيد العالمي. أما على الصعيد المحلي، فإن الانهيار الاقتصادي يسفر عن انتشار البطالة، وانخفاض مستوى العلم، وارتفاع نسبة الجرائم، والهجرة، وتوقف المشاريع الهامة، وضعف قواتها العسكرية، وسيادة الرشوة، وتكاثر الديون العامة والخاصة، وسوء التغذية، وسيطرة القوي على الضعيف، وسواها من الكوارث الاجتماعية والنفسية التي تهيمن على المجتمع، فتصبح الدولة كالمريض الذي يقاسي من سكرات الموت.
ومن المؤسف، إننا نشهد اليوم طلائع هذه المعاناة وهي بداية المخاض الأليم الذي يتولد عنه الفواجع والكوارث؛ ومن المتعذر على المرء أن يتكهن بالنتائج لسرعة تتابع الهزات الاقتصادية والإخفاق في إيجاد الحلول الجذرية لها. إن العالم حقاً لفي كرب عظيم. وعلى الرغم من انعقاد المؤتمرات العالمية، والتداول بين رؤساء الدول، وتموين الحكومات الأسواق المالية ببلايين الدولارات لإنقاذ الوضع من الانهيار الاقتصادي، فإن نتائج هذه المحاولات ما برحت في طي المجهول، وما زالت القلوب واجفة تأخذها الحيرة بل الذهول.
ولكني في هذا المقال لا أسعى إلى معالجة الأوضاع الاقتصادية لأنني آخر شخص على وجه الأرض الذي لديه أي إلمام في هذا الحقل. بيد أن هذه الظروف القاسية التي نتعرّض لها جميعاً جعلتني أن أتأمل في نوع آخر من الكساد، أو الإفلاس، أو الانهيار، ألا وهو الانهيار الروحي في بعض الأوساط المسيحية بخاصة والمجتمع بعامة. وفي رأيي أن الانهيار الروحي أخطر بكثير من الكساد أو الإفلاس الاقتصادي لأن تأثيره لا يتوقّف على فترة معينة بل قد تنتقل عدواه إلى النواحي الروحية والاجتماعية والصحية والأخلاقية. ومتى أصاب الانهيار الروحي الكنيسة فإنه يصبح كالسوس الذي ينخر أصل الشجرة من الداخل، وهذا لا بدّ أن يفضي إلى عقم الحياة المسيحية.
خاطب المسيح المؤمنين قائلاً: ”أنتم نور العالم“، وفي مكان آخر قال لهم: ”أنتم ملح الأرض“، ولكن ماذا يحدث للعالم عندما يفتقر للنور؟ وماذا يصيب الأطعمة عندما تخلو من الملح؟ إن الحياة المسيحية الحقة هي نور مضيء وركيزة أساسية في استتباب الأمن، والطمأنينة، والبناء الاجتماعي والروحي بكل ما فيهما من قيم أخلاقية، وفضائل أدبية وروحية. ودعني يا قارئي العزيز أن أشير هنا إلى بعض الأسس التي يقوم عليها الصرح المسيحي الذي يمنع الانهيار الروحي.
أولاً: إن الصرح المسيحي في حياة الكنيسة والأفراد يقتضي أن يكون مبنياً على الصخر الذي لا تزعزعه العواصف
إن إيماننا الثابت بالمسيح هو الصخرة التي تعجز تقلبات الحياة أن تقتلعها وتطوّح بها إلى الأودية السحيقة. لهذا، فإن هذه الصخرة تصمد أمام أنواء النكبات ولا يعتريها الانهيار بفضل أصالة الإيمان بصخرة الدهور. ولست أدّعي أنني أول من يردد هذا الكلام، بل إنني أتوكّأ على ما نطقت به شفتا السيد المسيح المقدستان في معرض حديثه عن الإيمان الثابت. وإن الرسوخ في مثل هذا الإيمان لا يقوم على الاتكال على عملة مزيّفة أو معاملات غير شرعية كما يحدث في الأسواق المالية، فالمسيح هو صخرة الدهور، الذي في جميع مواقفه تحدّى قوى الشر وانتصر عليها، فتراجعت مقهورة أمام مواقفه المظفرة. لقد لقننا المسيح دروساً بليغة وإستراتيجية في أساليب المقاومة والثبات عندما يشنّ إبليس هجماته العنيفة على حياتنا. ولم تكن هذه الدروس ذات طابع نظري، بل كانت دروساً عملية تحمل في ذاتها، بوعيٍ، أعباء المسؤوليات الجسام. كانت تجارب المسيح في البرية وآلامه على الصليب خير مثال على إستراتيجية المقاومة والصمود. لهذا السبب فإن المسيح، بعد إعلان بطرس الصريح: ”أنت هو المسيح ابن الله الحي“، أجابه: ”وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها“.
هذا الوعد الصادر عن المسيح هو تأكيد صارخ على بقاء الكنيسة وثباتها إن ظلت متمسكة بإيمانها.
وثانياً: الاستسلام والانقياد لمشيئة الله
متى وضعت الكنيسة مشيئة الله في حياتها فوق كل مشيئة أخرى فإنها تكون قد أخضعت نفسها لقيادة الروح القدس وانضوت تحت قيادته. إن قيادة الروح القدس لا يمكن أن تخطئ، وما على الكنيسة والمؤمنين سوى الانصياع لهذه المشيئة وتنفيذها بكل صدق وإخلاص.
عندما تتمرّد الكنيسة أو الفرد على إرادة الله ويتبع إيحاءاته الذاتية، وميوله معتقداً أنه أحكم من الله وأكثر استيعاباً للظروف المحيطة، فسرعان ما يجد نفسه يضرب في متاهات المجهول على غير هدى، فإن البوصلة الإلهية التي كانت مرشداً له في أدغال الحياة قد استبدلها بمعالم خدّاعة تتركه في شرود روحي يفقد فيه قدرته على التمييز، ولا يلبث أن يعتريه الشعور بالضياع والبؤس الروحي.
للأسف أننا نرى لفيفاً كبيراً من الكنائس ودعاة الإيمان قد انساقوا وراء أحكامهم البشرية حتى في الشؤون الروحية، وأخضعوها لمنطقهم الملتوي على الرغم من أن تلك الأحكام مناقضة بجلاء لتعاليم الكتاب المقدس، وما أشار إليه الروح القدس. ولا يسعني هنا سوى أن ألمّح إلى مثل هذه الكنائس التي تقبل في عضويتها أصحاب الشذوذ الجنسي، والتي لا تعارض الزواجات من الجنس الواحد، والتي ترسم رعاة يقومون على خدماتها الدينية من ذوي الميول غير الطبيعية؛ وفوق ذلك نراها تبرر هذه التصرفات على ضوء تفسيرات كتابية أدانها الله في العهدين القديم والجديد. إن هذا الانحراف الذي أصاب مثل هذه الكنيسة كما أصاب الأفراد قد جعل من الدين مهزلة ففقدت مثل هذه الكنيسة فاعليتها وتأثيرها على المحافظة على القيم الموروثة التي أثبتت صحتها وضرورتها لبناء مجتمع صالح. وهكذا عندما تحل الإرادة الإنسانية في الأمور الروحية بخاصة محل مشيئة الله فإن التوتر ما بين الروحي والجسدي يأخذ طابعاً مأساوياً يؤدي في معظم الأحيان إلى التفسّخ في نمط السلوك المسيحي. ومن المؤلم حقاً أن كنائس وقياديين كانوا سابقاً في طليعة الحركات المسيحية قد تراجعوا في مصطرع المعركة الروحية وساوموا العالم فلم يلبثوا أن سقطوا في ساحة الوغى.
ثالثاً: القيام بالخدمات الروحية فردية كانت أم جماعية
هذه الخدمات تتمتع بأهمية قصوى في حياة الكنيسة والمؤمنين، وتعرب عن الحيوية الكامنة في البنية المسيحية. إنني هنا أميّز تمييزاً واضحاً ما بين الخدمات الاجتماعية التي هي جزء ذو مغزى في نشاط الكنيسة، وما بين الخدمات الروحية. إن الخدمة الروحية تأخذ بعداً يتعدّى حدود الزمانية والمكانية ولها علاقة بالمصير الأبدي؛ فالكنيسة الناهضة هي الكنيسة المصلية، والواعظة والمبشرة التي نقضت الجدران التي سُجنت في داخلها، وخرجت بكل جرأة تكرز بإنجيل المسيح وببشارة الملكوت. هناك شعلة ملتهبة في أعماق كل مؤمن اختبر خلاص المسيح تحفزه دائماً على إعلان الشهادة، والعمل على ربح النفوس التي مات من أجلها المسيح. وأكثر من ذلك، فإن هذه النهضة تعبّر عن نمو الاقتصاد الروحي، وأن الكساد الذي انتاب حياة بعض المؤمنين والكنائس لا مجال له في هذه الأوساط. إن مثل هذه الخدمة لا تعترف بحدود، ولا تأبه بالعراقيل، ولا تخيفها الاضطهادات، بل إنها تجد في العراقيل والاضطهادات حوافز على المواظبة على الخدمة، ومتابعة الجهاد في معركة الحياة والموت الروحية. كان هذا موقف الكنيسة الأولى التي حملت مشعل الإنجيل إلى العالم، وبذلت كل تضحية من أجل رفع راية الخلاص. لقد رأت العالم غارقاً في انهيار روحي وأخلاقي، فناضلت على الرغم من قلة عدد أعضائها، وضَّحت بمواردها المادية الضئيلة لمعالجة الإفلاس الديني لأنها كانت غنية بالموارد الروحية، وآمنت إيماناً وثيقاً أنه ”لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي قال رب الجنود“. وهكذا تجندت في خدماتها الروحية تحت قيادة الروح القدس وظفرت ثم سارت في موكب نصرة المسيح.
وفي وسعي أن أضيف عوامل أخرى تتسم بها الكنيسة المزدهرة ولكنني أكتفي بما ألمعت إليه لاعتقادي العميق أن هذه العوامل قد تكون الأكثر مغزى في قصة الغلبة الحقيقية في المسيح.
وقصارى القول، إن أي مؤمن أو كنيسة تتعرض للكساد والانهيار الروحي عندما تفقد صلتها بالمسيح الذي هو الكرمة الحقيقية الذي تستمد منه الحيوية والغذاء والنمو والإثمار.
لقد تسرّب الإفلاس الروحي إلى بنية طائفة كبيرة من الكنائس فلم تعد مؤهلة للتفاعل ومحاربة قوى الشر، وغلبت المساومة على المواقف الصامدة، وتم نزع السلاح الروحي والاستكانة إلى الهزيمة، وهكذا خسرت مثل هذه الكنائس مكانتها وخسر أعضاؤها شهادتهم.
ما نريده حقاً في هذه الأيام هو انقلاب روحي يعالج الأزمة الروحية التي ألمّت بحياتنا المسيحية وينقذها من الانهيار، فهل من سامع يستجيب لدعوة الصلاة من أجل نهضة حقيقية في جميع الأوساط المسيحية؟

المجموعة: 200811

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

123 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10471813