Voice of Preaching the Gospel

vopg

تشرين الأول (أكتوبر) 2008

من الاعتقادات العامية السائدة أن العلوم هي مجموعة حقائق محسوسة راسخة. ولا مكان للتخمينات والافتراضات فيها. وهذا الاعتقاد منسجم مع النظرة القديمة إلى العلوم، النظرة التي كانت مقبولة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد يتلخص هذا الاتجاه بكلمات رئيس إحدى الجامعات في الولايات المتحدة عام 1856، حين قال:


"إن العلوم معرفة مؤكدة منظّمة. إذا كانت هذه المعرفة مخمّنة أو مشكوكاً فيها فهي لا تنتمي إلى العلوم".
لا ريب أن عامة الناس الذين ما زالوا متمسكين بهذه النظرة يتعجبون لو قرأوا ما قاله العالم الشهير ألفرِد وايتهد:
"كانت العلوم وما زالت على الغالب حركة ضد الأسلوب العقلي. ومبنية على إيمان ساذج.. ولم تهتم يوماً أن تبرر إيمانها أو أن تشرح معناه".
إن وجود العلوم النظامية والحقائق المؤكدة معلق ومبني على فرضيات أساسية واعتقادات إيمانية. هذه الفرضيات لم تُبَرهَن ولا يمكن أن تُبرهَن بواسطة النظريات العلمية لأنها سبّاقة لكل علم. هي المحرك الأساسي لكل بحث علمي. وحجر الزاوية لكل عملية مختبرية. وهذا عين ما يصفه اينشتاين وشريكه ”انفلد“ في كتابهما: "تطور الفيزياء" حين قالا: "بدون الإيمان إنه من الممكن استيعاب الحقيقة بواسطة تركيباتنا النظرية، وبدون الإيمان في انسجام العالم الداخلي، لا يمكن أن توجد العلوم. هذا الإيمان كان وسيبقى الدافع الأساسي لكل خلق علمي. ففي كل مساعينا وفي كل صراعاتنا الدراماتيكية بين القديم والجديد، نلحظ الشوق الأبدي للفهم، والإيمان الراسخ في انسجام العالم الطبيعي، ممكناً بالحواجز الكثيرة التي نواجهها في طريق الإدراك".
فالعلوم، لكي تزهر، تحتاج إلى إيمان راسخ بفرضيات أساسية. والإيمان هذا لم يكن يوماً نقطة ضعف في العلوم بل مصدر إيحاء وقوة. والإيمان في المسيحية أيضاً حاجة يعتمد عليها وجود المسيحية وازدهارها. وكل احتجاج على أن المسيحية ضعيفة لأنها مبنية على فرضيات مسلم بها ينطبق على العلوم أيضاً.
فرضيات العلوم كثيرة تبدأ بالبديهي كوجود المادة، وصحة عقل العالم ويقظته، وتنتقل إلى الأساسي. وسنختار في هذا المجال الضيق ثلاث فرضيات فقط.
1- الإيمان بالنظام في الكون
لكي يتمكن أي عالم من القيام بأية عملية علمية عليه أولاً أن يفترض إمكانية دراسة الطبيعة واستنتاج القوانين العامة من الأمور الملحوظة الخاصة. قال اينشتاين بهذا الصدد:
"العلوم ليست مجموعة من القوانين، أو قائمة مبوّبة من الحقائق المعزولة فحسب، بل هي من خلق الفكر البشري… بمعونة النظريات الطبيعية نحاول أن نجد طريقنا عبر شبكة الحقائق المنظورة لكي ننظم ونفهم عالم المحسوسات".
ويقول وايتهد:
"لا يمكن أن توجد علوم حية ما لم يوجد اقتناع غريزي شامل بوجود نظام للأشياء. وبالأخص نظام للطبيعة. وقد استعملت كلمة غريزي عمداً".
فهذا الاعتقاد بالنظام السائد في الكون سبّاق لكل عملية ولا يمكن برهنته بالطرق الاستقرائية أو الاستنتاجية لأنه أساس لكليهما. فعلى العالم أن يسلم مؤمناً أن الكون منتظم وأنه لن يفيق يوماً ليرى كل قوانين الكون قد تغيرت فأصبح الجسم المرمى يسقط إلى فوق مثلاً.
2- الإيمان بمبدأ السببية
كان مبدأ السببية ولا يزال موضوع جدال. فكثيرون يظنون أن العلوم الحديثة قد نفت وجود السببية في الطبيعة. وهذا الظن مستوحى خطأ من قاعدة "اللايقين" التي وضعها هيزنبرغ. إلا أن هذه القاعدة لا تنفي مطلقاً وجود سبب طبيعي للأمور بل جلّ ما تقوله أننا لا نستطيع أن نحدد الحوادث الطبيعية بتعيين قاطع.
فالعلوم بطبيعتها ترتكز على الإيمان بالسببية وإلا لما استطاع العالم أن يستنتج من بعض الأمور المشاهدة سبباً غير مُشاهَد كوجود الذرات الصغيرة والالكترونات المشحونة وغيرهما. ومع أن مبدأ السببية هو نظرية، إلا أنه كما يقول بلانك أحد كبار العلماء، يجعل تطبيق النظريات الأخرى ذات معنى. ففي العمليات الاستنتاجية أو التطبيقية يفترض العالم أن هنالك علاقة سببية يأمل أن تستمر. وكل نظرية علمية أخرى تفترض صحة مبدأ السببية.
3- الإيمان بالتعويل على العقل البشري
من البديهي أن وراء العمليات العلمية إيمان راسخ أن العقل البشري ذو إمكانية يعوَّل عليها في فهم الأمور الطبيعية واستنباط القوانين اللازمة التي تساعد على فهم المشاهدات الطبيعية. فالعلوم ما هي إلا نتيجة لتخطيط وتطبيق القوى العقلية البشرية. ومجرّد استخدام هذه العقول وقبول النتائج المتوصَّل إليها برهان على الإيمان الوطيد أن العقل البشري يمكن الاعتماد عليه في فهم الطبيعة.
مصدر فرضيات العلوم
هذه الافتراضات الأساسية الثلاث وطائفة غيرها من الافتراضات لم تنتج عن العلوم بل أنتجت العلوم. فماذا يمكن أن يكون مصدرها؟ ما الذي يدعو العلماء إلى قبولها؟
لا يمكن أن تكون النظرة المادية مصدر الفرضيات هذه لأن النظرة المادية تعرّي البحوث العلمية من صبغتها العقلانية. فعملية التفكير عند العالِم في نظر الماديين لها نفس العلاقة مع الدماغ كعلاقة صفارة القطار مع محركه.
ولا يمكن أن يُنتج الإلحاد هذه الفرضيات لأن الإلحاد اتجاه سلبي يشدد على عدم الوجود.
هل يعقل إذاً أن تكون الديانة مصدر الفرضيات العلمية؟ وأية ديانة هي هذه؟ فالديانات الوثنية القديمة كديانات الرومان واليونان افترضت وجود آلهة متعددة واعتبرت الطبيعة ذات صفة إلهية، فقضت على فكرة النظام والسببية، وخففت من أهمية العقل البشري لأن الطبيعة بصفتها إلهية تفسر نفسها. والديانات الشرقية كالهندوسية والبراهمية تعتبر أن المادة غير حقيقية وخيالية. والنيرفانا هي عزل الذات عن كل ما هو مادي، ولذا فمن الغباوة أن يهتم الإنسان بالأمور المادية كالعلوم. ولهذا السبب لم تزدهر العلوم في الحضارات اليونانية والرومانية والشرقية.
لم تتقدّم العلوم وتنضج إلا عندما أُسقطت النظرة الوثنية من الفلسفة وطغت النظرة المسيحية على الأمور. فلا بد أن جذور فرضيات العلوم متأصلة في النظرة المسيحية إلى الطبيعة وما وراء الطبيعة. فالمسيحية كانت وما زالت تنادي أن نظامية الكون أمر حتمي ناجم عن الإيمان بسيادة الله وصفاته ورعايته لهذا العالم. كما أن مبدأ السببية يعتبر من النتائج المعمول بها في المسيحية. أما التسليم بإمكانية العقل البشري للاستيعاب فحقيقة يبرزها الكتاب المقدس بكل تشديد: "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يوحنا 32:8) و"أموره [الله] غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدرَكة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته"
(رومية 20:1). فالمسيحية تأمل من الإنسان معرفة الحق وإدراك اللامنظور من خلال المنظور. وهذا إيمان كبير يمكّن الإنسان على الاستيعاب.
أية صفات مسيحية ساهمت في خلق ودعم فرضيات العلوم؟
في اعتقادي أن هذه الصفات مهما تعددت ترتكز على النظرة المسيحية الرزينة الواقعية إلى المادة. وهذه النظرة مبنية على ثلاث ركائز لاهوتية:
أ- عقيدة الخلق – الإرادة والنظام.
ب- عقيدة التجسد – صلاح المادة بحدّ ذاتها.
ج- عقيدة التصور – إمكانية تصور قوة الله من خلال الطبيعة (ليس بطريقة حلولية).
فلا شيء يبرر فرضيات العلوم مثل الإيمان بعقل خلاّق مبدع وراء هذا الكون، عقل حكيم واحد متنوع في وحدانيته، والإيمان بأن العالم هو عمل واع لهذه الشخصية العاقلة، وأن هذه الشخصية العاقلة التي خلقت العقل البشري هي حق. وفي المعتقد المسيحي تجد العلوم دعامة أساسية لفرضياتها وليس عدواً لدوداً كما يحاول البعض تصويرها. وهذا ما حدا بالبروفسور ماكماري أن يقول: "العلوم هي الولد الشرعي لحركة دينية عظيمة. ويعود نسبه إلى يسوع".
 

المجموعة: 200810

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10472320