Voice of Preaching the Gospel

vopg

أيار May 2011

ليعذرني قرائي الأعزاء إذا صدمهم هذا العنوان، فقد اعتدنا أن نقرأ وأن نتكلم عن سيدنا، بأنه رسول المحبة والسلام، وأنه المعلم الوديع، ومتواضع القلب، وهو بالطبع كذلك. لكننا لم نعتد النظر إليه كثائر عظيم. وهذه الثوروية لا تتعارض البتة، من وجهة نظري، مع كونه رسول الحب والسلام، وأنه الوديع حقًا والمتواضع فعلاً (متى 29:11). ولكي أثبت أنه لا تناقض في هذا الطرح، نحتاج إلى تعريف محدد لماهية الثائر العظيم، لكي نرى إن كان هذا الوصف ينطبق على المسيح أم لا.

أعتقد لكي نقول عن شخص ما أنه ثائر عظيم، يتحتم علينا أن نفحصه من ثلاثة زوايا، أولاً: من جهة أثره في التاريخ، فطبقًا للتعريفات اللغوية لكلمة ثورة ينبغي أن يكون قد أحدث تغييرًا جذريًا. ثانيًا: من جهة نوعية ثورته، هل هي ثورة نافعة لغرض سامٍ ونبيل، أم هي مجرد حركة تمرد وعصيان؟ ثالثًا: من جهة نوعية شخصيته، هل هي شخصية ثوروية؟ بمعنى هل هو قائد وقدوة، صاحب شخصية قيادية ترفض الخنوع والاستسلام للأوضاع الخاطئة، وقادرة على إحداث التغيير أم هو شخصية عادية خدمتها الظروف أو شخصية انتهازية صعدت على أكتاف غيرها؟ تعال معي لنطبق هذه المعايير الثلاثة على المسيح.

أولاً: أثره في التاريخ

لا يحتاج هذا الأمر إلى كلام كثير، لإقناع قارئي العزيز بأن ما عمله المسيح في التاريخ هو تغيير جذري، جعل العالم إلى اليوم، وبعد ألفي عام من ميلاده، يقسم التاريخ البشري؛ إلى ما قبل ميلاده وما بعده! وقبل أن أورد رأي أساتذة العالم من المؤرخين، سأكتفي برأي المؤرخين الذين لم يؤمنوا به، إمعانًا في البرهان. أتذكر حديثًا دار منذ فترة قصيرة بيني وبين صحفي شهير، وهو غير مسيحي. سألني في مكتبه: كم سنة عاش المسيح؟ قلت: حوالي ثلاثة وثلاثين سنة. قال: وكم عاش بين الناس يخدمهم ويدعو لرسالته بينهم؟ قلت: حوالي ثلاث سنوات. قال: نعم هي فقط ثلاث سنوات، لكن العالم كله لم يزل إلى اليوم يأكل من خيرهم! والآن إلى رأي بعض المؤرخين.

ﻫ أ ويلز، المؤرخ الانجليزي، والأديب، وعالم الاجتماع الشهير، والملحد الأكثر ضراوة وعنفًا في نقده للمسيحية، يقول: "أنا مؤرخ، ولست بمؤمن، لكن ينبغي أن أقر كمؤرخ؛ أن هذا المبشر الفقير المعدم الذي من الناصرة، هو مركز وقلب التاريخ البشري بدون أدنى جدال. وبدون أي صعوبة يمكنني القول أن يسوع المسيح وحده هو أعظم شخصية بارزة وسائدة في كل التاريخ البشري".

جورج بانكروفت المؤرخ الأمريكي الأشهر في القرن التاسع عشر، ورجل الدولة، وقائد البحرية الأمريكية، ومؤسس الأكاديمية البحرية الأمريكية، ومؤلف المرجع الشهير تاريخ الولايات المتحدة منذ اكتشاف القارة الأمريكية، قال: "إنني أجد اسم يسوع المسيح موجود على رأس كل صفحة من صفحات التاريخ الحديث".

و ل ديورانت المؤرح الأمريكي الأعظم في العصر الحديث، ومؤلف موسوعة قصة الحضارة وموسوعة قصة الفلسفة، قال: "النقطة المركزية لكل التاريخ البشري هي تلك السنوات الثلاث التي عاشها يسوع المسيح بين الناس".

ثانيًا: نوعية ثورويته

هنا آتي إلى النقطة الجوهرية في هذا المقال، حيث يكمن تفرُّد المسيح كثائر عن بقية الثوار. لقد أتى بالجديد الذي لم يسبقه إليه أحد، وبطريقة لم يتخيلها أحد. كيف؟ لقد بدأ ثورته بالفرد وليس بالمجتمع، وكانت طريقته من الداخل إلى الخارج، وليس من الخارج إلى الداخل!! دعني أوضح ما أعني بهذا. لقد رأى المسيح بؤس البشر وتعاستهم، في ظل أوضاع ظالمة سياسيًا وفاسدة اجتماعيًا. ولو كان قد قاد ثورة سياسية للتحرير من عبودية الأنظمة القمعية، أو لو كان قد أشعل ثورة اجتماعية لرفض الثقافة الفاسدة، والتقاليد البالية، التي تكرس التخلف والفقر والبؤس. لكان التاريخ قد خلده كغيره من الثوار العظماء. لكن المسيح سلك مسلكًا مختلفًا تمامًا.

كان الاعتقاد السائد وقتئذ، ولم يزل إلى اليوم، أن المجتمع الصالح سياسيًا واجتماعيًا هو القادر على أن يخلق إنسانًا صالحًا. ومن هنا جاء اهتمام الثوار الصالحين، على مر العصور، بتغيير الأوضاع السياسية أو الاجتماعية للإنسان. لكن جاء المسيح ليقول العكس! جاء ليقول إن الإنسان الصالح هو الذي يخلق مجتمعًا صالحًا سياسيًا واجتماعيًا. وأن تغيير البيئة والمناخ الأخلاقي، الذي يعيش فيهما الإنسان، لن يغير الإنسان. وإن غيَّره، فهو تغيير مفروض من الخارج (متى 19:15). تغيير لا يقوى على اختراق الإنسان ليمس جوهره. تغيير لا يمس سوى السطح والشكل، ولذا فهو سطحي وزائل. وعليه كانت رسالة المسيح هي تغيير الإنسان نفسه؛ تغيير جوهره وليس مظهره أو حتى مجرد قناعاته وعقائده، لكن تغيير كيانه الروحي (2كورنثوس 17:5)، تغيير قلبه ونوعية حياته. هذا التغيير الذي ينتشر في داخل الإنسان فيغير قناعاته وأخلاقه، ثم ينضح إلى الخارج ليخلق المجتمع الصالح، والذي بدوره يفرز الحكم الرشيد.

كان جان جاك روسو يعتقد أن الإنسان يولد صالحًا، لكن المجتمع الفاسد يفسده. وكان يرى أن إصلاح المجتمعات يبدأ بإصلاح الحكام. فهم من وجهة نظره سر وعلة فساد المجتمعات. ولذلك طالب بالعقد الاجتماعي كأساس للحكم، والذي كان أساس الثورة الفرنسية. وكان تي إس إليوت يقول: "أحلم بمجتمع صالح للدرجة التي لا يتعب فيه الإنسان لكي يكون صالحًا! وبالأمس فقط سمعت الدكتور أحمد عكاشة يقول: أن الإنسان يولد بدون أخلاق والمجتمع يخلق له أخلاقه. جاء المسيح ليقول العكس تمامًا، جاء لا ليبدأ بالمجتمع بل بالإنسان. لذلك لم يدعُ إلى دين بل إلى تغيير. تغيير يعجز المجتمع عن إحداثه في أفراده. ويعجز الإنسان الفرد عن إحداثه في نفسه. لكن المسيح لم يزل يجريه. ولهذا ماتت كل الثورات أما ثورته فلم تزل جارية ملتهبة إلى الآن.

الثورة ضد من؟

هنا آتي إلى نقطة هامة: ضد من كانت ثورته؟ فحيثما يوجد ثائر وثورة، لا بد أن نسأل ضد من؟ إذا قرأت الأناجيل الأربعة بعناية؛ ستكتشف أن المسيح لم يتصادم أبدًا مع القوى السياسية آنذاك، رغم علمه بفسادها وظلمها، ورغم معاناته الشخصية منها. وستكتشف أيضًا أنه لم يتصادم أبدًا مع المجتمع في عاداته وتقاليده البالية، على الرغم من عدم توافقه مع الكثير منها. لكنك ستكتشف بسهولة شديدة ثورته وصدامه الثابت والمستمر مع المؤسسة الدينية! لماذا؟ لأنها كانت هي العائق الأكبر أمام تحقيق رسالته وغايته، ألا وهي تغيير الإنسان من الداخل (اقرأ متى 23).

أنا لا أنكر أن القهر السياسي، والفساد الاجتماعي يخلقان مناخًا غير ملائم لجريان بشارة التغيير. هذا ما رأيناه على سبيل المثال في الاتحاد السوفييتي السابق وفي أوروبا الشرقية قبل عام 1989. لكن لا يمكن أن يقاس أثرهما السلبي بأثر المؤسسة الدينية في تخدير ضمائر الناس، وتغييب عقولهم، وتقسية قلوبهم، حتى لا يقبلوا بشارة التغيير. لذلك لم يصطدم المسيح إلا بها. ولم يثر إلا عليها.

لذلك أقول، إنني من الممكن أن أقبل أن يوضع المسيح بين الثوار العظماء، لكنني لا أقبل أبدًا أن يوضع بين مؤسسي الديانات. هذا لأنه لم يأتِ ليؤسس ديانة جديدة يؤدي ويتمم فرائضها الإنسان القديم. لكنه أتى لكي يخلق إنسانًا جديدًا يكون قادرًا على خلق مجتمع جديد. قال: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يوحنا 10:10). وكون المسيحيين انزلقوا بعد هذا، وسقطوا وكوّنوا ديانة نسبوها إليه زورًا وبهتانًا، فيسأل عن هذا المسيحيون وليس المسيح.

اقرأوا الأناجيل الأربعة، وأْتوني بدليل واحد يؤكد أن المسيح هو مؤسس الديانة المسيحية التي عرفها البشر ابتداءً من القرن الثالث الميلادي؟! لن تجدوا. لكن اقرأوا التاريخ جيدًا، فيكتشفون بسهولة أن المسيحيين هم الذين أسسوا الديانة المسيحية وليس المسيح. أما الأناجيل الأربعة فهي ترينا ببساطة قصة حياة شخص أحب الإنسان، عاش دائمًا بين الناس يمجد الله في خدمة الإنسان. عاش صالحًا، يعمل أعمالاً صالحة (متى 35:9-36). ووعد أن من كل من يؤمن به، ويقبله مخلصًا، سيعطيه نفس نوعية حياته، ليعيش نفس عيشته، ويعمل نفس أعماله، ويقوى على طاعة تعاليمه. هذه هي المسيحية الحقيقية والتي ما أبعدها عن الديانة المسيحية.

الثورة الآن: لقد بدأ المسيح ثورته، ثورة تغيير الإنسان، منذ ألفي عام ثم سلم مشعلها لتلاميذه لينشروها في كل البلدان. وقد عمت ثورته كل الأصقاع والأزمان حتى وصلت إلينا نحن الآن وغيرت جوهرنا وألهبت أرواحنا. لكن يا ترى، وهذا هو السؤال الهام: هل نحن ثوار؟ هل نسير على دربه حاملين مشعل ثورة الحب، ثورة تغيير الإنسان من الداخل؟ أم أننا فقدنا اهتمامنا بالإنسان وصرنا ننفق أعمارنا في تدعيم أركان الديانة، دون حب وتعب لمن جاء ومات المسيح من أجله؟ إنني بكل أسف أرى أن الثورة تموت على أيدينا الكسولة، بعد أن انسحبنا انسحابنا المخزي إلى المرح الديني، والطقس الديني، والتسالي الدينية بمختلف أشكالها الطائفية. لقد صارت وجوهنا زيتية شمعية جامدة من شدة ابتعادها عن شمس الشارع الصاخب بآلامه وبؤسه، ومن طول اختبائها داخل جدرانها الرطبة بتساليها المختلفة.

البقية في العدد القادم

المجموعة: 201105

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

154 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10574948