أذار March 2012
كم كانت وما زالت بداية أمر أصعب من نهايته، مع أن نهاية أمر خير من بدايته. وأقصد بذلك انطلاقة الفكر، أو وضع المخطط الأول، أو القيام بمشروع، أو الاتفاق على تعاقد، أو الشروع في زواج، أو بناء صرح معنوي أو مادي، أو حتى هدم ما بنيناه، فالإنسان كتلة مشاعر وأحاسيس ومحتوى زئبقي ضعيف تقلقه كلمة وتريحه ابتسامة، تفرحه خطوة نجاح وتمرضه كبوة فشل، ينعشه إكمال عمل ويحبطه ضياع أمل، تصدمه مواجهة الحقائق ويطمئنه كتمان أسراره، يمكنه إقصاء الله ويرعبه يوم الموت. فالبدايات دائما آفاق سرابية بعيدة في الأفق تحتاج الى التروي والحذر الشديد لاستيعابها ودراستها. ولنبدأ في فحص بعض البدايات وأبعادها.
أولاً: بداية الكون
إن "في البدء خلق الله السماوات والأرض" تعني أن الخليقة خلقت في زمن خاص، فهي إذًا ليست أزلية. تصوّر وجود خليقة بلا خالق أو دولة بلا حكومة! والمهم أن الخليقة خلقها خالق واحد منفصل عنها وإن كان يوجد فيها كلها. والمشكلة هنا أن معرفتنا بزمن البدء غير مدركة. ونحن هنا أمام نظريتين: إما أن الكون موجود منذ الأزل أو أن الكون حدث من ذاته في فترة معينة من الزمن وأن نواميس الطبيعة قد خلقت الطبيعة. هذا يثير أسئلة كثيرة أهمها: كيف نشأت الحياة على الأرض؟ هل الأرض ذاتها هي أم الحياة أم كانت هناك وثبة بيولوجية غير معروفة حتى الآن؟ وقد تتحدانا أربعة آراء عن نشأة الكون:
الأولى، إنه مجرد خيال أي ليس له كيان حقيقي ولكنه مجرد صورة عقلية والطاقة هي فرض رياضي.
والثانية، نشأ الكون فجأة من العدم، وهذا مناقض للمبدأ "لكل معلول علة".
والثالثة، إنه موجود منذ الأزل وسينتهي بالفناء.
والرابعة، لا بد من وجود خالق حكيم عليم قوي أبدعه. ويؤيد علم الجينات نظرية الخلق الإلهي، فلو جمعت كل الجينات ووُضعت في مكان واحد لكان حجمها أقل من حجم جوزة هند صغيرة أي أن ألفي مليون من البشر يمكن أن يتجمعوا في مكان صغير كهذا. قال أحدهم: الملحد شخص يبني بيته بدون شبابيك، ثم يلوم الله على الظلمة التي يعيش فيها. "قال الجاهل في قلبه: ليس إله"، ويفتخر بهذا الجهل ويظنه غاية الحكمة. ويحير الناس سؤال جريء وهو: من الذي نشأ أولاً: البيضة أم الدجاجة؟ والجواب بسيط: إن الخالق خلق أولا الأم للدجاج والبيض بحيث لم تكن قبلها بيضة أو دجاجة. إن المتكبّر عقليًا يرى في نفسه الكفاءة أن يتخطّى أبعادًا لا يجب أن يتحدّاها بينما لا يدرك أشياء تافهة حوله. إن القدير الأبدي الأزلي ما قبل الألِف وما بعد الياء، أو إن شئت فقل إنه الألف والياء إذا دخلنا الى التقييم الزمني. قال الشاعر أحمد شوقي:
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري
حتى أريك بديع صنع الباري
الأرض حولك والسماء اهتزتا
لروائع الآيات والآثار
من كل ناطقة الجلال كأنها
أم الكتاب على لسان القاري
ثانيا: بداية الحب
للحب ثلاثة أغراض كبرى هي الصداقة والإلفة والسعادة. والحب هو سر إطالة العمر وترياق الزمن العليل. وقد يبدأ الحب من أول نظرة، إنه مبدأ الحب من أول نظرة فيرى الحبيب من يحب في قمة الجمال وروعة الإشراق، في العينين بريق بحيرة عميقة، وفي الهدوء سكون أليم. هذا ما أشار إليه الأنبياء عن العشق الإلهي "كلّكِ جميلة يا حبيبتي وليس فيك عيبة". والحب يدفن الماضي ويفتح صفحة جديدة يوميًا ليلتقي الحبيبان بالمستقبل السعيد. إن بداية الحب الحقيقي تختصر في كلمتين "الله محبة". وحقيقة إن إمكانية الإنسان أن يختار، ظاهرة بلا جدال.
إن المحبة لغة السماء. قال فيلسوف المسيحية بولس: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة وليس لي محبة فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجا يرن". قال الشاعر يعقوب كاتس: "إن الفتى الذي أثقله الحب يسعى للاتحاد بذلك النصف المفقود وهو الفتاة المحبوبة. ومن الطرائف أنه وُجد على نقش خشبي يصور آدم وحواء معًا هذه العبارة: "إن ما يفقده الإنسان يتطلع إليه ويتلهّف عليه". فقد أُخذت المرأة من جنب الرجل ولذلك يشتاق الإنسان إلى شيء أُخذ منه. من أين يبدأ الحب؟ وكيف يحب البشر؟ الحب يقبل القيود برضى، ويرفض المشاجرات... يحافظ على القيم الأخلاقية ويكره الغيرة العمياء... يبني العواطف النبيلة ويتحدى الملل... يقدّس التقدير والاحترام ويقضي على اختلاف الآراء... إنه إتحاد بلا فرقة. يشارك الآخر كالطفل ويستلهم الحب من الله.
في الستينات، داهم قطار امرأة مشهورة لها طفلة عمرها عام وزوجها في أواخر الأربعين، وطالب الزوج تعويضا قدره 125 ألف دولار، لكن محاميه رفع التعويض إلى 150 ألف دولار. فما هو ثمن زوجتك؟ إن الحب أخذ وعطاء واندماج فردين في واحد.
ثالثًا: بداية النهاية
قال شاعر قديم: إن الله خلق البشر كل فرد هو الوحيد من نوعه، وهكذا الحيوانات والنباتات. وأكدت الأبحاث أن رواية موسى تنطبق بالتمام على أصل النوع البشري وتسلسله. وبذلك لا يمكن قبول رأي الماديين بأن الطبيعة أوجدت كل شيء بدون علة للوجود، أو مذهب ألوهية الكون في أن الله والطبيعة شيء واحد، أو نظرية اللاأدريين الذين ينكرون الله بحجة أن الله غير محدود ولا يمكن معرفته أي أن معرفتنا لله جزئية.
هل تعلم أنه لو حدث إشعاع ذري مميت في العالم فلن يبقى من المخلوقات إلا الحشرات.
تصوّر هذه القيم الفكرية: لذة بلا ضمير... ذكاء بدون أخلاق... علم بدون إنسانية... ثروة بدون عمل... سياسة بدون مبادئ... دين بدون حقيقة... حكومة بدون الله. إذن عليك بالعمل أيام الشباب، فإن ساعات الشباب من ذهب وساعات الكهولة من فضة، وساعات الشيخوخة من رصاص. فإن من لا يعرف شيئًا في العشرين لا يعمل شيئًا في الثلاثين ولا يملك شيئًا في الأربعين.
إن الإنسان يتعلم ويسجل براءات اختراعاته، ويطوّر أسلحة الدمار، ويريد الدفاع عن نفسه ووجوده. هل تصدق أن الإنسان يخشى الموت؟ إن نهايته تجعله كالكلب يلهث راكضًا وراء المال والشهرة حتى يؤمّن مستقبله، لكن الموت ليس نهاية بل بداية حياة أفضل.
قال بولس رسول المسيح: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا". إن عالم اليوم يئن من جراء الحروب، والزلازل، والمجاعات، والأوبئة، والفساد، والغش. فهل نحن في مبتدأ الأوجاع، أو في الضيقة العظيمة، أو في عصر رجسة الخراب، أو في أي مرحلة؟
قال أحدهم: "أريد سعادة ولو ضئيلة خاصة لي ووقفًا عليّ".
تتبعت أخبار اليوم فتألّمت، وراح قلمي في غيبوبة الألم لأكتب كلمة عزاء وتشجيع.
رنِّم الترنيمةَ خِلِّي الأمين
سبِّح الرحمن ربي كل حين،
لا حدود لا سدود لن تزول
نعمة الله علت فوق الأنين،
ردد الحمد له كل صباح
طول ليل فجره بان ولاح،
لا تكُفّي نفسي إذ دمي يسيل
دمه الغالي يضمّد الجراح،
إرتقي يا روحي... واعلو ذي النجوم
ليس كنز في الدنى سوف يدوم،
إن ربي مبدع الكون رحوم
ملجأ الكل إذا النوء يقوم،
يا جبالٍ عاليات إخضعي
هوذا يأتيك رب القدرة،
وعده راحة قلبٍ آمنِ
صلبه بر صلاح ضامني،
إرفع الراية فاللقا حتمًا أكيد
ظلمة الأيام أبدًا لن تزيد،
يفعل الله بشعبه ما يريد
قد دنا خلد سعيد ومديد
