إلى صديقي، في خدمة المسيح،
تخالجني في هذه اللحظة مشاعر مبهمة يتعذّر عليّ أن أستوعب عمق جيشانها في ظلمة المجهول، ولست أدري كيف أعرب عما يعتلج في قلبي من أسى، وفي رأسي من خواطر تحملني إلى عالم ذكرياتنا التي تمتدّ لأكثر من خمس وأربعين سنة مضت.
هي ذكريات صداقة رفيقين تمور بالإخاء انتسجت فيها خيوط حياتنا في خدمة مقدسة انتدبها الله لنا، وما أحلاها من خدمة!
ولكنني أجد نفسي أعاني من قشعريرة الفراق التي ألمّت بنا، وإن كنت أدرك تمام الإدراك أنك الآن تتمتّع بكل ما كنت تتوق إليه من مباهج روحية، أهمها أن تكون في حضرة المسيح الذي كنت له خادمًا مكرّسًا... فمنذ مطلع شبابك أقدمت على التجنّد في خدمته بالقول والفعل، لا فرق في ذلك إن كنت راعيًا في كنيسة، أو خادمًا متجوّلاً، أو رئيسًا لكلية اللاهوت المعمدانية، أو مؤلفًا عالمًا تسخِّر ما لديك من مواهب من أجل من أحبك ومات من أجلك. لقد خضت معركة روحية طاحنة لا يعتريك فيها إعياء، عمادك وعود الرب، وحافزك محبته، ويقينك غلبته. لم تُرعبك العقبات، أو المصاعب فجاهدت الجهاد الحسن، وها أنت الآن تحظى بالمكافأة الموعودة. لقد ضربت في مشارق الأرض ومغاربها، حاملًا راية الإيمان التي عهد بها سيدك إليك، فحملتها بعزة خافقةً فوق تفاهات الحياة، فأجازك الله بمئات البنين والبنات الذين ربحتهم للمسيح. فصرت مثلاً لتلاميذك، وقدوة صالحة للمتدربين على يديك، فطوباك يا أخي لأنك قد أصبت الهدف وربحت.
ولكنني أشعر بما يعتريني من حزن وفراغ، فقد فقدت أخًا محبًا، ورفيقًا حميمًا، وشريكًا في الخدمة، والحوارات الفكرية، والروحية التي كنا نتبادلها كلما التقينا في رحاب الأرض. ولشدّ ما كانت ليالينا تطيب في مباحثاتنا أو في أثناء التمتّع بقراءة قصيدة بثّ فيها الشاعر خلجات نفسه، أو مناجاة سكب كاتبها فيها ذوب فكره وقلبه.
لقد مضت الآن هذه اللقاءات في طيات الزمن، ولن تعود إلَّا في الأمجاد السماوية.
نعم، لقد خسرتك الأرض وربحتك السماء، ولست أدري إن كان في وسعي أن أملأ الفراغ الذي خلَّفته في أعماقي. لقد أكملت خدمتك يا رفيقي بإخلاص، فاستدعاك ملكك إلى جواره لكي ينعم عليك بأوسمة الإكرام. إننا جميعًا هنا "نحسدك" ونبتهج لك لما حظيت به من الإنعام. لا، "لم يمت غسان بل تبدّل العنوان" فقط، فأنت في قلوبنا ذكرى حية لأن ذكر الصديق للبركة، وقدوتك ستظلّ نبراسًا للأجيال القادمة، فطوباك.
الدكتور صموئيل عبد الشهيد
