"إرمِ خبزك على وجه المياه فإنك تجده بعد أيام قليلة." (الجامعة 1:11)
جلس بالقرب مني في قاعة استراحة فندق كنا ننزل به... وخلال الحديث تعارفنا، ثم طرح عليّ قضية لم أسمع بمثلها من قبل، قال: أفهم أن الإنجيل لديكم لا يجمع بين المُعجزة والهداية.
قلت: ما الذي تعنيه؟
قال: هذا ما سمعته في برنامج تلفزيوني رسمي لدولة عربية مجاورة بأن الإنجيل لا يجمع كغيره بين المعجزة والهداية.
قلت: وهل ما تسمعه أو تشاهده على الشاشة الصغيرة هو في مرتبة الوحي، فتأخذه على علّاته دون التحقُّق من صحته؟ دعني أضع الإنجيل أمامك تحت المجهر... هل قرأت الإنجيل، هل اطلعت عليه؟
قال: لا!
قلت: تعال أُريكه... فناولته نسخة من الإنجيل وطلبت منه أن يفتحه أينما شاء، فأخذه وردّده بين يديه يُمنة ويُسرة بارتياب ونظر إليّ والحيرة في عينيه.
فقلت: اقرأ من أين شئت، وفتحه فكان أمامه الأصحاح السابع من إنجيل لوقا، وبدأ يقرأ بصوت متهدّج الكلمات التالية:
"وكان عبد لقائد مئة، مريضًا مشرفًا على الموت، وكان عزيزًا عنده. فلما سمع عن يسوع (المسيح)، أرسل إليه شيوخ اليهود يسأله أن يأتي ويشفي عبده... فذهب يسوع معهم. وإذ كان غير بعيد عن البيت، أرسل إليه قائد المئة أصدقاء يقول له: "يا سيد، لا تتعب. لأني لست مستحقًّا أن تدخل تحت سقفي... لكن قلْ كلمة فيبرأ غلامي."
"ولما سمع يسوع هذا تعجّب منه، والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال: [أقول لكم: لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا!] ورجع المرسلون إلى البيت، فوجدوا العبد المريض قد صح"!
هنا استأذنت صديقي وسألته: هل من معجزة فيما قرأته تشدّ الأبصار؟
قال: إنها معجزة شفاء الغلام المشرف على الموت.
قلت: لمعلوماتك فقائد المئة هذا هو ضابط روماني وثني الانتماء. فهل في ظنك أن المعجزة جذبته إلى الهداية والإيمان بالله؟
فأجاب: لا شكّ في ذلك سيما وأن المعجزة حصلت عن بعد دون أن يراه أو يلمسه.
قلت: الآن بعد معجزة الشفاء تلك، هل تعتقد أن الرجل يرجع إلى وثنيّته وكفره؟
قال: كيف يرجع بعد أن رأى ما صنعته المعجزة.
ثم تابع فقال: هذه أول مرة أتعرّف بها على الإنجيل.
قلت: كيف وجدته؟
قال: ما قرأته جميل وسهل الفهم، ما توقعت أن يكون هكذا، وفي قراءته مُتعة تشدّ القارئ لا أعرف كيف أصفها.
ثم قال: هل تسمح لي أن أقرأ الفقرة التالية؟
قلت: تفضل. فكانت الكلمات التالية: "وفي اليوم التالي ذهب (المسيح) إلى مدينة تُدعى نايين، وذهب كثيرون من تلاميذه وجمعٌ كثير. فلما اقترب إلى باب المدينة، إذا ميتٌ محمولٌ، ابن وحيد لأمه، وهي أرملة ومعها جمع كثير من المدينة. فلما رآها الرب تحنّن عليها، وقال لها: [لا تبكي.] ثم تقدّم ولمس النعش، فوقف الحاملون. فقال: [أيها الشاب، لك أقول: قم!] فجلس الميت وابتدأ يتكلّم، فدفعه إلى أمه. فأخذ الجميع خوف، ومجّدوا الله قائلين: [قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه.]"
هنا توقّف صديقي عن القراءة والتأثّر بادٍ على وجهه، فسألته: هل وجدت هنا أيضًا فيما قرأته علاقة وثيقة بين المعجزة والهداية؟
قال: واضح أنه بتأثير المعجزة، أهل مدينة نايين أخذوا يسبّحون الله، وموكب الحزن تحوّل إلى مهرجان فرح وتسبيح لله. فالهداية مُؤكّدة!
ثم نظر إليّ وقال: لا أدري لماذا يرمي البعض الكلام بدون علم ويشوّهون الحقائق.
وقبل أن نفترق قال: هل لي أن أحصل على نسخة من الإنجيل الكريم؟
فقلت: هو بيدك وهو لك، فشكر وهزّ يدي بقوة والبسمة على وجهه وافترقنا. وبعد ساعات رأيته عن بعد يحمل حقيبته ويغادر الفندق ملوّحًا لي بيده بابتهاج.
فقلت لنفسي: هل سنلتقي يومًا معه في الأبدية ونستذكر من جديد الحديث الشيِّق وما أثمر عنه؟
ولاحت في الذاكرة كلمات وردت في سفر الجامعة 1:11 "إرمِ خبزك على وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة."
هي فرص تُتاح... ليتنا نستثمرها... وفي الأبدية ستُكشف لنا أسرار لم نحلم بها أو تخطر على بال.
