إنها قصّة حبّ وعطاء... قصة عروس تنتظر يوم زفافها إلى حبيبها...
تهيم بعريسها حينًا حتى الجنون، وتسلو عنه حينًا آخر فتتراخى، ولكن محبّة العريس وشوقه يبقيان دائمًا في نفس المستوى بدون ضعف أو فتور.
يظنّها البعض قصّة غرام جسديّ تسيطر عليه مشاعر وأحاسيس بشريّة ولكنّ أحداثها وعباراتها تكشف للمطالع المتعمّق عن معانٍ أسمى وأهدافٍ أجلّ. ويجانب الصواب، في نظري، من يعتبرها مناجاة بين الكنيسة في مختلف أزمنتها وأوضاعها من جهة، وبين عريسها المبارك الرب يسوع... فهي تشتاق إليه حينًا، وتشعر حينًا آخر كأنه بالقرب منه، بل يضمّها ويعانقها.
“أخبرني يا من تحبّه نفسي أين ترعى، أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنَّعة عند قطعان أصحابك؟” (نشيد الأنشاد 7:1)
تلك هي العروس في حالة من الضعف تستخبر عن أوضاع عريسها.. فهي لا تزال تجهل تفاصيلها.. وتلوم نفسها لأنّها تبدو كمقنّعة لا تستطيع أن تكشف عن صفاتها الحقيقيّة ولا تقدر أن ترى نور الحقّ ساطعًا!
“أخبِرْني” - لأنّ عندك الخبر اليقين... “فتح كلامك ينير يعقّل الجهّال”، “أخبرني” فإن أخبارك وحدها فيها الصدق الكامل بعد أن أصبحت أخبار هذا العالم مليئة بالكذب والدجل.. وأخبارك أمينة مخلصة بعد أن اكتشفتُ أن أخبار العالم غاشة وخادعة. إن أخبارك معزّية للقلب بينما أخبار الآخرين محزنة... وأخبارك مشجّعة بينما أخبار هذا العالم مفشّلة ومثبّطة للهمّة. لذا “أخبرني” عن صدق حبّك ومراحمك التي لا حدود لها.
“يا من تحبه نفسي” - فأنت وحدك تستحقّ المحبّة الكاملة من كلّ القلب لأنّك أحببتني أوّلًا، وبذلتَ ذاتك من أجلي... أتيت إليّ في وحدتي لكي تؤنس وحشتي، وتطيّب قلبي، وتمنحني نفحة قوةٍ في ضعفي وفتوري.
“أين ترعى؟” - فإني أريد - لو أستطيع – أن آتي إليك لأتعلّم منك كيف تعامل خرافك بمحبّة وحنان.. ولكي أعرف أصول الرعاية الحقّة.. فأنت الوديع والمتواضع القلب عسى أن أستطيع العيش بحياة التواضع والوداعة في خدمتي لك.
“أين تربضُ عند الظهيرة؟” - لعلّي أستطيع أن آتي لأستظلّ وأستريح بقرب قلبك المحبّ... في ظلال عطفك وحنوّك حيث تريح خرافك المتعبة... فأنا أيضًا تعبة من هذا العالم... لقد لفحني برده القارس، ولوّحتني شمسه المحرقة، فأجلِسني برهة في ظلال حنانك يا صاحب الحنان.. ولعلي أستطيع - بدفء حبّك - أن أتشجّع فأخلع تلك الأقنعة المقيتة، وأتحرّر من ضعفاتي الكثيرة... ولعلّ أشدّها إيلامًا لنفسي:
1- قناع الكسل والاسترخاء
ونقرأ عن وصفٍ دقيق لهذه الحالة في نشيد 2:5-3، فتلك العروس التي تدّعي أنها تنتظر عريسها بفارغ الصبر هي الآن نائمة... وقد وصل الحبيب إلى باب بيتها، وبدأ يقرع الباب، ويكلّمها بكل ألفاظ المحبّة والمدح والتشجيع: “افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي.” ويحدّثها عن معاناته في برّيّة جهاده لأجلها “لأن رأسي قد امتلأ من الطلّ وقصصي من نُدى الليل”. ولكن لم يؤثّر فيها كلّ ذلك حتّى أنّها اعتبرت نهوضها وارتداء ثوبها تضحية عظيمة. “قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟” وسيرها بضع خطوات لفتح الباب مشكلة كبيرة “قد غسلت رجليَّ، فكيف أوسّخهما؟” لقد كان بيتها وسخًا فلو داست أرضه لتوسّخت رجلاها! هذه الصورة عينها يدوّنها يوحنا الرائي من خطاب الربّ الموجّه إلى الكنيسة الفاترة (لاودكية) التي تمثّل كنيسة الأيام الأخيرة “هنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي” (رؤيا 20:3).
لقد لبست قناع الكسل والاسترخاء كما يلبس الكثيرون من المسيحيّين اليوم... لقد اقترب مجيء الرب، والبيت متّسخ بأمور كثيرة من هذا العالم الغرّار، وكثيرون اليوم هم في خمول... في حين يجب أن يكونوا يقظين ومنتظرين مجيء الرب الذي بدأت علامات اقترابه تظهر بوضوح وجلاء.
2- قناع الخجل والحياء
وكثيرًا ما يمنع الخجل بعض المؤمنين من الإفصاح عن إيمانهم والكرازة بكلمة الرب... فكأنّهم يضعون على وجوههم قناعًا يمنع الآخرين من رؤية المسيح فيهم! والأشدّ غرابة في هذا الأمر أن أهل العالم من غير المؤمنين لا يخجلون بالأعمال المخزية والأقوال البذيئة بقدر ما يخجل المؤمنون بإظهار برّ المسيح الذي يرفع الرأس، ويزيّن النفس، وليس فيه عار أو خجل... ونحن نرى بعض أهل العالم يفتخرون بإلحادهم، وكفرهم، وعدم أمانتهم.. يفتخرون بأذيّة الآخرين، وأكل حقوق الناس بالغشّ والخداع، ويحاولون نشر مقاومتهم لكلّ ما هو حقّ، وجليل، وصيته حسن دون أن يرفّ لهم جفن. بينما نخجل نحن أحيانًا باسم المسيح، وبذكر فدائه، وعمله الكفاريّ، ونعمته المخلّصة، متجاهلين القول “لأنّ من استحى بي وبكلامي فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القدّيسين” (لوقا 26:9). ويا ليت كلّ أولاد الله يقولون مع الرسول بولس: “لأنّي لست أستحي بإنجيل المسيح لأنّه قوّة الله للخلاص لكلِّ من يؤمن...” (رومية 16:1-17).
3- قناع الجهل والغباء
يخبرنا البشير لوقا عن تلميذَي عمواس اللّذين سار الرب معهما بُعَيْد قيامته من الموت وأظهر لهما ذاته في الطريق حيث كان يفسّر لهما الأمور المختصّة به في جميع الكتب، وأمّا هما فكانا يتكلّمان عنه بصيغة الغائب... “فقال لهما: أيها الغبيّان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلّم به الأنبياء”.
وكم هو مطلوب منا اليوم أن نزيح عنّا قناع الجهل بأساسيّات إيماننا فنركّز على قوّة وفاعليّة دم المسيح للخلاص، ونسلك بلباقة وحكمة كما يحقّ لإنجيل المسيح لئلّا تلصق بنا صفة الغباء الروحيّ.
4- قناع الإنكار وقلّة الوفاء
كثيرون ممّن ينكرون المسيح عن قصد أو عن غير قصد، وربّما لأجل اعتبارات ذاتيّة ليست موجودة إلّا في مخيّلاتهم. فقد أنكر بطرس تلميذ يسوع المتحمّس سيّده في ساعة ضعف... ولكن ما أجمل العبارة التي دُوِّنت عنه: “فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعامِّيَّان، تعجّبوا. فعرفوهما أنّهما كانا مع يسوع” (أعمال 13:4). فإلى أيّ مدى يعرف الناس حولنا أنّنا من أتباع يسوع الناصري؟
قارئي الكريم، جيّد أن يعرف الإنسان ضعفه، ويلوم نفسه كما فعلت عروس النشيد. ولكنها رمت أقنعتها، وتجاوزت ضعفها إذ تأمّلت بوفاء عريسها، وبصدق حبّه وإخلاصه، فراحت تسعى كي تكون أكثر قربًا منه مهما كلّفها الأمر من عناء.
كذلك كلٌّ منَّا يحتاج إلى نعمة خاصّة من الروح القدس لكي يستطيع أن يزيح أقنعة الضعف، والجهل، والشكّ... فالإيمان ليس برداء نلبسه أو نخلعه عندما نريد، وليس بوجه مستعار نضعه لغرض معيّن ثمّ نرميه، بل هو فعلٌ حقٌّ، ومبدأ، وسيرة حياة ثابتة لإبقاء علاقتنا مع المسيح قويّة حتى يوم مجيئه القريب فنرقى معه إلى مجده العظيم العجيب.