Voice of Preaching the Gospel

vopg

كتب روحية

فهرس المقال

الفصل الثالث

 

المسيح ليس نبيًا مرسلاً فقط

بل هو الله ظاهرًا في الجسد

 

أوضحنا في الفصل الأول أن الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. وأوضحنا في الفصل الثاني أن الابن هو الأقنوم الإلهي الذي أعلن الله ولم يكن ممكنًا أن يعلنه سواه لأنه "المعادل لله"، بل هو "صورة الله"، "ورسم جوهره". وفي هذين الفصلين - بما فيهما من أدلة كثيرة - كل الكفاية لإثبات لاهوت الابن. ولكننا نريد في هذا الفصل أن نبيّن بنوع خاص أن المسيح الذي وُلد من العذراء مريم "صائرًا في شبه الناس"، وعاش هنا على الأرض" في الهيئة كإنسان"، فجاع، وعطش، وتعب من السفر، ونام في السفينة، وأهين من البشر، هو نفسه الذي حلّ فيه "كل ملء اللاهوت جسديًا"، فكان بناسوته متحيّزًا، وبلاهوته يملأ السماء والأرض، متحدًا مع الآب والروح القدس. وهذا سرّ شخصه الفائق "الذي لا يعرفه إلا الآب" (متى 27:11). وهذا سر عظيم: "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1تيموثاوس 16:3).

لو أن المسيحيين أرادوا أن يتفادوا هذه المشكلة العويصة لكان من اليسير عليهم أن يقولوا إن المسيح كان نبيًا مرسلاً من الله، وأنه أفضل الأنبياء والمرسلين، ولا يقولون إنه هو الله نفسه جاء إلى هذا العالم. ولكن ليس الأمر بيدهم، لأنهم لم يصوغوا إيمانهم لأنفسهم بل قبلوه من الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس، وهو إعلان صادق (كما سنبيّن في الفصل الخامس) سواء استطعنا أن نستوعبه أم لم نستطع، ولكن شكرًا لله لأنه مستوعب ومعقول ويملأ القلب راحة وسلامًا.

إن الصعوبة الكبرى تتجسّم أمام الذين ينظرون إلى أن ولادة المسيح هي بدء وجوده كأي إنسان آخر، بينما لو أمعنوا النظر لرأوا أن نفس ولادته بالجسد لم تكن ولادة عادية كسائر البشر بل كانت من عذراء لم يمسسها رجل. ولم يتكوّن جسده الطاهر من زرع بشر بل من روح الله - جسد مكتوب عنه منذ القديم "هيّأت لي جسدًا". فالنظرة الصحيحة هي أنه أقنوم إلهي كائن منذ الأزل ولكنه في الوقت المعين اتّخذ ناسوتًا طاهرًا ليس له مثيل إذ هو مهيّأ له بكيفية معجزية فريدة، اتخذه ليجيء إلى العالم، ظاهرًا في الجسد لغرض عظيم وهو تمجيد الله الذي أهانه الإنسان بعصيانه، والتكفير عن خطايا البشر، كما سنبين ذلك بالتفصيل في الفصل التالي. وعبارة "ظهر في الجسد" تفيد سابق وجوده قبل ظهوره[3] إذ لا يمكن أن يقال هذا عن أي إنسان، لأن كل إنسان قد بدأ وجوده عند ولادته.

أما المسيح الذي ولد في بيت لحم من العذراء مريم فمكتوب عنه قبل ولادته بمئات السنين "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ... فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا... وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أيام الأَزَلِ" (ميخا 2:5). ونقرأ: "وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ (الابن) اللَّهَ... وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يوحنا 1:1 و14)، وهنا نرى لاهوت الابن السابق لناسوته. ونقرأ في إشعياء 6:9 قبل ولادة المسيح بسبعمائة سنة "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا (المسيح كمن يولد من العذراء)... وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا مُشِيرًا إِلَهًا قَدِيرًا (الله القدير، المسيح في مقامه الإلهي)". واسمه العجيب المشار إليه هنا هو "عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (متى 32:1) أي الله ظهر بين البشر. واسمه أيضًا "يسوع" (متى 21:1)، وهي كلمة عبرانية معناها "الله المخلص". فكلا الاسمين اللذين دُعي بهما عند ولادته يدلان على لاهوته.

إن الصعوبة تبدو لمن ينظر إلى المسيح كإنسان جعله المسيحيون إلهًا، بينما الحقيقة هي العكس، أن الله تنازل ليصير إنسانًا محتفظًا في نفس الوقت بلاهوته، وهذا بحسب قدرته الفائقة. والتنازل هو من حقه الذي لا اعتراض عليه، لأنه يمكن الاعتراض على من يرفع نفسه فوق حقيقته، أما العالي الرفيع إذا تنازل واتضع فهذا مما يمجده في عيوننا سيما وأن هذا التنازل هو من أجلنا.

ولزيادة التأكيد، نأتي بعدة شواهد أخرى من الكتاب المقدس تؤكد لاهوت المسيح بما لا يدع مجالاً للشك، فقد ذكر عنه بصريح العبارة أنه الله: "وَأَمَّا عَنْ الاِبْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ" (عبرانيين 1؛ مزمور 45). وأيضًا "صَعِدْتَ إلى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْيًا. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ وَأيضًا الْمُتَمَرِّدِينَ لِلسَّكَنِ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ" (مزمور 18:68). والذي فعل هذا هو المسيح (أفسس 8:4 و9). ومكتوب أيضًا: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا" (إشعياء 3:40). ويقال هنا "الرب" و"إلهنا" عن المسيح الذي أعد المعمدان طريقه (يوحنا 1: 23). وقال المسيح نفسه "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إبراهيم أَنَا كَائِنٌ" (أي يهوه الأزلي) (يوحنا 8: 58) ويقول عنه الرسول بولس: "الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلَهًا مُبَارَكًا (الله المبارك) إلى الأَبَدِ" (رومية 5:9). ويقول يوحنا: "هَذَا هُوَ الإِلَهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأبديةُ" (1يوحنا 20:5)؛ وأيضًا "لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (1كورنثوس 8:2). ويقول المسيح "أَبْنِي كَنِيسَتِي" (متى 18:16)؛ بينما في أعمال 28:20 نقرأ "كَنِيسَةَ اللهِ". وقال له توما: "رَبِّي وَإلهي" (يوحنا 28:20). ومكتوب أيضًا: "مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (أو إلهنا ومخلصنا العظيم يسوع المسيح) (تيطس 13:2) وهو أيضًا "إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ" الذي هو اسم الله وحده (تثنية 17:10).

كما نسبت إلى المسيح في الكتاب المقدس أعمال إلهية وصفات إلهية، منها أنه خالق كل شيء: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يوحنا 3:1). وأيضًا "الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ" (كولوسي 16:1) وأيضًا "الَّذِي بِهِ (بالمسيح) أيضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ  بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عبرانيين 2:1). وأيضًا "كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ" (يوحنا 10:1). وهو أيضًا "الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (رؤيا 8:1). "الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ" (فيلبي 21:3). وهو "حَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ" (عبرانيين 3:1).

وهو العليم بكل شيء، فقد قَالَ لَهُ تلاَمِيذُهُ: "نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ" (يوحنا 30:16). وقال له بطرس: "يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْء"[4] (يوحنا 17:21). وهو "الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبَِ" (رؤيا 23:2). وهذه صفة الله وحده (إرميا 10:17). وهو الأزلي الأبدي الذي لا يتغير. ونضيف إلى الشواهد السابقة عن ذلك ما يأتي: "يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإلى الأَبدِ" (عبرانيين 8:13). وقيل عن المسيح الذي كانت أيامه قصيرة على الأرض: "إلى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ. مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى...َأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ" (مزمور 25:102-27).

وهو الموجود في كل مكان وزمان، فقد قال: "لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسمي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ" (متى 20:18). وأيضًا "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأيام إلى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ" (متى 20:28). وهذه صفة الله وحده! "أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرض يَقُولُ الرَّبُّ؟" (إرميا 24:23).

وهو الذي يقبل أرواح المنتقلين كما صلى إليه استفانوس: "أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي" (أعمال 59:7). وهو الذي يقيم الأموات كما قال بفمه الكريم: "كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أبديةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأخير" (يوحنا 39:6). وهو "الْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأموات" (2تيموثاوس 1:4). وهو الذي يغفر الخطايا (لوقا 20:5؛ 17:7)، ويعطي الحياة الأبدية (يوحنا 28:10)، وهذان من اختصاص الله وحده.

وقد شهد له نثنائيل قائلاً: "أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ" (يوحنا 49:1). وقالت مرثا التي أقام المسيح أخاها: "أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إلى الْعَالَمِ" (يوحنا 27:11). وقال بطرس الرسول: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ" (متى 16:16).

إن المسيحيين لا يؤلّهون الإنسان، ولا يؤلّهون ناسوت المسيح، لأنه كان ناسوتًا محدودًا متحيّزًا (أي لا يوجد إلا في مكان واحد في وقت واحد)، ولكنهم يؤمنون أن هذا الناسوت كان "يحل فيه كل ملء اللاهوت" بغير اختلاط أو امتزاج (كولوسي 19:1؛ 9:2). فالمسيح له المجد هو "الله (الذي) ظهر في الجسد"، فكان في هذا العالم إنسانًا كاملاً، كامل الإنسانية، وفي نفس الوقت كان ولا يزال بلاهوته يملأ السماوات والأرض. فكانت له طبيعتان، طبيعة إنسانية منزّهة عن الخطية ولكن لها خصائص الإنسان الذي يجوع ويعطش ويتعب ويتألم، وطبيعة إلهية ظهرت في الوقت نفسه في علمه بكل شيء، وقدرته على كل شيء كما رأينا[5]. ويشار إلى الطبيعتين معًا في عدة آيات من الكتاب المقدس: منها "كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ (طبيعته الإلهية)... مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الاِبْتِهَاجِ" (مزمور 6:45-7). وأيضًا "الإنسان الثَّانِي (طبيعته الإنسانية) الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ" (1كورنثوس 47:15). وعدم فهم هذه الحقيقة هو الذي يثير اعتراضات كثيرة، فعندما يقرأ البعض الآيات التي تتكلم عن طبيعة المسيح الإنسانية، أو عن كون الله أعظم منه، يقولون لأول وهلة: إذن المسيح إنسان فقط. ولكن إذا وضعنا في أذهاننا الحقيقة السامية الفائقة الإدراك المعلنة في الكتاب المقدس وهي أن المسيح هو الله وإنسان معًا، زالت الصعوبة تمامًا. وهذه الحقيقة لا يقبلها إلا الإيمان، ومع ذلك فهي حقيقة معقولة لها ما يبررها كما سنرى في الفصل التالي. وإليك أمثلة من الآيات التي تدل على طبيعة المسيح الإنسانية التي بها يعثر كثيرون:

"إلهي! إلهي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي" (مزمور 1:22). وأيضًا "إِنِّي أَصْعَدُ إلى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإلهي وَإِلَهِكُمْ" (يوحنا 17:20). وأيضًا "أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي".

(يوحنا 28:14)

 

آراء بعض العلماء غير المسيحيين

قال الشيخ أبو الفضل القرشي عن المسيح في هامشه على تفسير البيضاوي جزء 2 صفحة 112: "يمكن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأنه لا إله إلا الله".

وقال الإمام أحمد بن حائط "المسيح تذرع الجسد الجسماني، وهو الكلمة القديمة كما قال النصارى". وقال: "المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة".

وجاء في كتاب "البداية والنهاية" جزء 2 صفحة 100 أنه عندما زارت العذراء مريم امرأة زكريا الكاهن قالت هذه لها: "وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك".

وقال الأستاذ الراحل عباس محمود العقاد في كتابه "الله" صفحة 159: "جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإلهية". وصورة الذات الإلهية لا يمكن أن يأتي بها إلا من هو الله نفسه. وقد جاء في الكتاب المقدس أن المسيح "صُورَةُ اللهِ" (2كورنثوس 4:4؛ كولوسي 15:1).

وقال الإمام الغزالي: "إن كلمة "مطاع" الوارد ذكرها في الآية "مطاع ثم آمين"، يراد بها موجود غير الذات الإلهية المنزهة، وهو يحرك الأفلاك، ويدبر الكون، وعن طريقه يتوصل العبد إلى معرفة الموجود المنزّه عن كل ما أدركه البصر والبصيرة، وهذا الموجود ليس هو الله، ولكنه أيضًا ليس شيئًا غير الله. بل إن نسبته إلى الله هي نسبة الشمس إلى النور المحض. وهو أيضًا العقل الإلهي الظاهر أثره في الوجود، والذي به يتلقى الإنسان الوحي والإلهام". ومعنى هذه الأقوال أن "المطاع" هو "الله متجليًا"، الأمر الذي ينطبق على أقنوم "الكلمة" الذي أعلن الله، وهو يحرك الأفلاك ويدير الكون.

وقال الشيخ محيى الدين العربي: "القطب هو الأصل الذي يستمد منه كل علم إلهي. وهو عماد السماء الذي يدبر الأمر في كل عصر. ويدعى حقيقة الحقائق، ويدعى العقل الأول أو الروح الأعظم. وهو باطن الألوهية، والألوهية ظاهرة، وهو الحق أو الله متجليًا لا في زمان أو مكان معين. وهو العقل الإلهي الذي هو عين الذات لا غيره. وهو أول تجلٍّ للحق بعد مرتبة التنزيه المطلق. وأول صورة ظهر فيها الحق وخاطب نفسه. وهو لا يقبل التعريف أو التحديد. وهو العلم الإلهي بمعنى أنه العلم والعالم والمعلوم. وهو كمال محض. وتعزى إليه قوة الخلق والتدبير". وقال أيضًا: "الكلمة هي الله متجليًا لا في زمان معين أو مكان. وإنها عين الذات الإلهية لا غيرها". وكيفما كان قصد الشيخ العربي من كلمة "القطب" فإنه استساغ بفلسفته أن يسند إليه كل هذه الأوصاف ولا يقول أحد أنه كفر. أما نحن المسيحيين فنجد كل هذا في الكتاب المقدس مسندًا إلى المسيح الذي هو الكلمة وهو خالق كل الأشياء، وهو الذي يدبر الأمر في كل عصر، وهو الله متجليًا. وهو عين الذات الإلهية لا غيره. وهو كمال محض، وهو الذي به نتصل بالله.

وحدانية الأقانيم في الذات الإلهية

وفي كل صفات اللاهوت وخواصه

تكلمنا بإسهاب عن لاهوت المسيح، ابن الله، لأنه هو الذي يكثر فيه التساؤل. ولا بد لنا الآن، وإن كنا قد أشرنا إلى ذلك قبلاً، أن نبين أن الأقانيم الثلاثة هم الذات الإلهية الواحدة، واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته ولا أسبقية لأقنوم على أقنوم وإن بدا ذلك، لأول وهلة من أسماء الأقانيم. ويخطئ الذين يقولون: الأقنوم الأول، والثاني، والثالث، لأنه لا يوجد ترتيب لذكر الأقانيم في الكتاب المقدس بل يذكر الآب أولاً مرة، والابن أولاً مرة أخرى، والروح القدس أولاً مرة غيرها، وهكذا. كما أن أسماء الأقانيم لا تدل على أسبقية الآب عن الابن مثلاً، أو اشتقاق الروح القدس من الآب والابن. حاشا! لأن أسماء الأقانيم تدل على التعادل، وعلى العلاقة الروحية الأزلية، فالآب يحب الابن في الأزل "قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ" (يوحنا 25:17). والابن يحب الآب (يوحنا 31:14). والروح القدس "رُوحَ... َالْمَحَبَّةِ" (رومية 30:15؛ 2تيموثاوس 7:1). ولا يقال عن الآب الوالد بل الآب، لأن أبوّة الآب للابن هي علاقة محبة روحية سامية كما سبق القول، إذ أن الله بأقانيمه الثلاثة محبة "الله محبة". وقد ظهرت هذه المحبة بكمالها للبشر في إرسال الآب للابن كفارةً عن خطايانا. وفي تطوّع الابن ببذل نفسه كفارةً من أجلنا، وذلك بروح أزلي.

وقد قيل في الكتاب المقدس عن الآب أنه "اللهُ أَبُونَا" (2تسالونيكي 16:2). وقيل أننا باللسان "نُبَارِكُ اللَّهَ الآبَ" (يعقوب 9:3) ولا جدال في لاهوت الآب. أما لاهوت الابن فقد أوردنا عنه آيات كثيرة في هذا الفصل. بقي أن نقول كلمة عن "الله الروح القدس" سيما وأن البعض لا يدركون أقنوميته ويتصوّرون أنه قوة أو تأثير أو صفة من صفات الله، والبعض عن بساطة يتكلمون عنه بصيغة التأنيث فيقولون مثلاً: "حلت الروح" أو "الروح التي".

أقنومية الروح القدس ولاهوته

الروح القدس له كل المميزات والصفات الإلهية:

  1. فهو كلي العلم "يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ... أمور اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ" (1كورنثوس 10:2-11).
  2. وهو يفعل كما يشاء (1كورنثوس 11:12).
  3. وهو أزلي (عبرانيين 14:9).
  4. ويعرف المستقبل ويخبر به (لوقا 26:2؛ يوحنا 13:16).
  5. وهو كلي القدرة (رومية 19:15).
  6. وهو القدوس، وهذه صفة الله وحده (أفسس 30:4؛ رؤيا 8:4).
  7. وهو الحق "الروح هو الحق" (1يوحنا 6:5).
  8. وله ينسب الخلق (أيوب 4:23؛ مزمور 6:33؛ مزمور 30:104).
  9. وهو موجود في كل مكان (مزمور 7:139-8). وهو يسكن في جميع المؤمنين في كل زمان ومكان (يوحنا 17:14؛ أفسس 1:1).
  10. وهو المحيي (يوحنا 63:6؛ 2كورنثوس 6:3؛ رومية 11:8).
  11. وهو مصدر الوحي "بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بطرس 21:1).
  12. ويذكر صراحة أن الروح القدس هو الله، فقد قال بطرس لحنانيا: "لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ... أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ" (أعمال 4:5).

أما بخصوص كون الروح القدس أقنومًا، يتكلم ويسمع ويخبر ويحب، ويحزن، وليس مجرد قوة أو تأثير، فيكفي أن نورد الشواهد الآتية: "قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاول لِلْعَمَلِ" (أعمال 2:13). "رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ" (متى 20:10). "وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ... كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأمور آتِيَةٍ" (يوحنا 13:16). ومكتوب أيضًا: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ... وَبِمَحَبَّةِ الرُّوحِ" (رومية 30:15). ويقول الرسول بولس: "لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ" (أفسس 30:4).

 

أقوال بعض العلماء الموحدين عن الروح القدس

قال عبد الكريم الجبلي (مجلة كلية الآداب مايو سنة 1934) "روح القدس غير مخلوق". ولا يوجد كائن غير مخلوق إلا الله.

وقال الإمام الرازي في تفسيره جزء 5 صفحة 521 "روح الله هو سبب الحياة". وسبب الحياة هو الله.

وقال الزمخشري في تفسيره جزء 1 صفحة 162 "روح الله هو الاسم الأعظم". والاسم الأعظم هو اسم الله.

وقال محمد بيومي الحريري: "روح القدس هو روح الأرواح. وهو المنزّه عن الدخول تحت حيطة القول "كن" (الذي كان الله يخلق به المخلوقات). ومن ثم لا يجوز أن يقال في الروح أنه مخلوق، لأنه وجه خاص من وجوه الحق (الله) قام الوجود بذلك الوجه. فهو روح لا كالأرواح لأنه روح الله. وذلك الروح هو المعبَّر عنه بالوجه الإلهي في الآية "فأينما تولوا فثم وجه الله"، وهذا يطابق ما جاء في مزمور 139.

 

المجموعة: كتب روحية

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

72 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10601897