Voice of Preaching the Gospel

vopg

أنَّى لي أن أنسى تلك الليلةَ المرعِبة، إذ لا تزالُ محفورةً في ذاكرتي بكلِّ تفاصيلها المؤلمة.

فلقد أفقْنا خلالها أنا وزوجي مذعورَيْن على أصوات انفجارات هائلة هزَّتِ البناءَ الذي كنا نقطنُه في حيّ الأشرفية في بيروت، لبنان. وظننَّا للوهلة الأولى أنَّنا قد أصبحْنا تحت الرُّكام من شدّة الضغط الذي أحسسْنا به على رؤوسنا، وهذا أيضًا ما ظنَّه الجيران في الطوابق العليا. فلقد كان الغبارُ يملأ البيت. وللحال لبسنا ثيابنا في العتمة لانقطاع التيار الكهربائي، ورحنا نتلمَّس طريقَنا باتجاه باب الشقة، فوجدناهُ قد فُتح وحدَه من عزمِ الانفجار. وما هي إلَّا لُحيظات حتى تدفَّق الناسُ المارُّونَ في الحي في تلك الآونة إلى بيتنا من الخوف كما هرَع الجيران إلى الطابق الأول حيثُ كنَّا. ولمَّا استفسرنا منهم عن مكان الإصابة قالوا صاروخ أصابَ الطابق الثاني من الجهة المقابلة وها الشقة تحترق الآن والدخان يملأ الممرَّات كلَّها والدَّرج.
مرَّت ساعات وكأنَّها أيام، وبعد أنْ هدَأ القصفُ وتوقَّفتِ المدافع سمعْنا صفير سيارة الإسعاف في حيّنا لتنقل أحدَ المصابين في البناية المجاورة لنا. لكنّ الطاقم لم يستطع إسعافه لأنَّه كان قد فارق الحياة بسبب إصابته البليغة بشظيَّة اخترقتْ صدره وخرجَتْ من ظهره. كان شابًا في عمر الزهور يبلغُ السابعةَ عشرة فقط. وسمعْنا بعد ذلك ولولةَ النساء والبكاء والعويل الذي استمرَّ حتى الساعات الأولى من الفجر. بكينا من حرقةِ القلب على ابن جيراننا الشاب وفي الصَّباح خرجتُ أنا إلى الشرفة لأتفاجأَ بمنظر الدَّمار الهائل الذي خلَّفهُ الصاروخ في حيِّنا الصَّغير. وبالطبع وعلى مرِّ السنين التالية تكرَّر المشهد في شقةٍ أخرى كنا قد انتقلنا إليها في ضاحية (الحدث) وسكنَّا في الطابق الأخير من البناء. وعند سقوط القذائف على سطح البيت لم نكن هناك، وإلَّا لكنَّا أصبحنا من عداد الموتى. وقمنا بتغيير الزجاج المكسور والشرفة الهابطة والسقف الذي اخترقته القنابل فأضحى مليئًا بالفجوات. وأذكر أننا عشنا شهورًا عديدة خارج شقّتنا أكثر مما عشنا فيها. والآن، عادت الذكريات هذه لتأخذَ حيّزًا من تفكيري وأنا أرى مشاهد الأطفال والنساء والشيوخ يتساقطون بالآلاف ضحية الصراعات القائمة. ويدفع الأبرياء أرواحهم ثمنًا لهذه الحروب الشرسة سواء في أوكرانيا أو فلسطين. وأكثر ما يحزُّ في نفسي هو حين أرى أمهاتٍ يبحثْن بينَ الرُّكام عن أولادهن، وآباءً ينادون أطفالهم بأسمائهم علّهم يسمعون، وأولادًا يبكون وهم يردّدون "ماما"، "بابا"... يا لهَول الحروب سواء كانت أهليّة أم دوليّة أم ناتجةً عن معاناةِ شعبٍ تحت الاحتلال!
إذا كان العالم يحترقُ حينذاك لمَّا كتبَ المبشِّر بيلي غراهام كتابه الشهير في ستينيّات القرن الماضي، فماذا تُراهُ يكتب الآن لو كان بعدُ على قيدِ الحياة، حين يرى ما يحدث في هذه الأشهر المظلمة في عالمنا، عالم القرن الحادي والعشرين؟ عصر التطوّر الذي لم يشهد مثلَه تاريخ البشر من قبل، التطوّر على جميع الأصعدة... لكن للأسف، ليس من منظورِ العلاقات البشرية ولا الدولية ولا الأخلاقية ولا حتى الإعلامية لأنَّ المصالح تعمي عيونَ الرؤساء، والمطامع تسودُ على فكر القادة فيتصرَّفون بقساوة وشراسة لا مثيلَ لها. ونظرة واحدة إلى ما يجري من قتلٍ وتدمير وتهجير لا بدَّ من بعدها أن تقول إنَّ الإنسان المتحضّر قد وصل إلى الدَّرك الأسفل حيث لم تعدْ تنفع معهُ تطوّراتُه العلمية والثقافية والأخلاقية والإعلامية. فالحرب والقتل الممنهج من قِبَل الإنسان لأخيه في الإنسانية لا يحزُّ في النفس فقط بل يجعلها تشمئزّ مع الروح والجسد من كلِّ ما يُسمّى تطوُّرًا وتقدّمًا وإبداعًا في استخدام الأسلحة الفتَّاكة، والقنابل ذات الفوسفور الأبيض الحارقة والممنوعة في الحروب دوليًّا. لكنْ هل هناكَ مَن يسمع حقًّا ليوقفَ ما يجري. وأتساءل هنا: أبهذه الطريقة البشعة تُحَلُّ المشاكل والصراعات؟ وهل تنتهي عن طريق التدمير والإبادة الجماعية لشعبٍ بأكملِه؟ ومُذ متى كان العنفُ ينتجُ عنه شيءٌ إلاَّ العنف المضاد؟ منذُ متى كان الانتقام يؤدّي إلى نتيجة ويعيدُ السلام والطمأنينة؟ مُذْ متى كان التخلُّص من الآخَر والاعتداء على الأبرياء العُزَّل من أطفال وشيوخ ونساء هو الحلُّ لمشاكلَ متجذِّرة من القرنِ الماضي؟
نعم، وأؤكِّد لأقولَ هنا إنَّ العالم لا يحترقُ فقط لكنَّه ربَّما أدركَ وقتَ النهاية حين نرى العناصر تنحلُّ وتتساقطُ فوق رؤوس أهاليها لتصبحَ مقبرةً جماعيةً للعائلات. أفقتُ صبيحةَ يومٍ فرأيتُ بأمِّ عيني المذيعةَ تبكي وهي تنقُل أخبار المقتولين من أطفال سقطوا في الشارع العام وآخرين صاروا أشلاءَ تحت الرَّدم. وسمعت صوت صيحاتِ الأمهات وهنَّ ينادينَ فلَذات أكبادهنّ فكتبتُ على صفحتي الخاصة: "قلبي مُثقَلٌ جدًا في داخلي وأنا أشاهدُ المناظر المريعة لهذه الحرب المجنونة القائمة في غزة المحاصرة والتي سقط فيها حتى كتابة هذه المقالة أكثر من عشرين ألف شخص. والعار كلُّ العار على الدول الكبيرة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي أخفق حتى في اتخاذ قرارٍ لوقف إطلاق النار. فعلًا ليس هناك من كلمة تليقُ بهذا الموقف سوى يا للعار. لذا أقولُ "إنَّ كلَّ رئيس وقائد لسوف يحملُ على يديه دمَ هؤلاء الأبرياء المهدور كائنًا مَن كان وإلى أي طرف انتمى، على أكفِّهم إلى يوم القيامة."
فأين العدلُ في عالم الحضارة؟ أين الحلول التي تعطي لكل طرف في النزاع حقَّه في العيش الكريم؟ أين عقلُ الإنسان الواعي؟ وإذا عجزَ هذا، فلماذا لا يستعينون بالذَّكاء الاصطناعي!؟ أتراهُ يفيدُنا بشيء في هذا المنحى الذي فشل فيه الإنسانُ الطبيعي في حلِّ نزاعاته وصراعاته؟ ثم ماذا عنا نحنُ المؤمنين؟ هل نستطيع أن نقف غير مكترثين بما يحصل من حولنا حتى ولو بَعُدْنا عن مكان الأحداث بآلاف الأميال؟ ألا نتأثَّر إنسانيًا وعاطفيًا وحتى روحيًّا بما نراه على الشاشات؟ أم نحذو حذوَ البعض ممَّن يقفون كجُلمودٍ من الصخر فلا نبُدي أيَّ تعاطف مع المظلوم والمقهور بحجة أنَّنا لسنا من العالم؟ لكن لنتذكَّرْ أننَّا في العالم ولا يمكنُنا أن ننسلخَ عن معاناة البشر من حولنا أو نغمضَ أعيننا عن الظلم الحاصل. كتبَ ليو تولستوي الكاتب الروسي الشهير: "إذا شعرتَ بالألم فأنتَ حيٌّ تُرزق، وإذا شعرتَ بآلامِ الناس، فأنتَ لا شكّ إنسان." وذكَّرنا الرسول بولس بقوله: "فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين." (رومية 15:12) فمِنْ أيِّ الفريقيْن أنتَ؟
يحزُّ في نفسي أن أقول إنَّ البعض في هذه الظروف الصعبة يصبِّ الزيت على النار في تعليقاتهم وتدويناتهم في مواقعهم الاجتماعية. والبعض الآخر يبدي رأيًا يدينُ فيه نفسه لأنَّه يكشف جهلهَ الكامل لتاريخ المشكلة القائمة في الشرق الأوسط وما هي أسبابُها. حسبيَ أن نقرأ ونعرف ونتعاطف مع الحزانى والمتألِّمين، مع المقهورين والمظلومين الذين هُدمتْ بيوتُهم أمام أعينهم وصاروا لاجئين في أرضهم مرارًا عديدة. كتبَ سليمانُ الحكيم في هذا الشأن الكثيرَ من الأمثال العملية المُجْدية والتي هي وصايا الله وجزء من العبادة الحقيقيّة منذ بداية تعامل الله مع البشر فقال: "فِعْلُ العدْلِ والحقِّ أفضلُ عند الرب من الذبيحة." (3:21) "مَن يسدُّ أُذنيه عن صراخ المسكين، فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجاب له." (13) "التابعُ العدل والرحمة يجدُ حياةً، حظًّا وكرامة." (21) "... لا تدخل حقولَ الأيتام، لأنَّ وليَّهم قويّ. هو يقيم دعواهم عليك." (11:23) "ثم رجعتُ ورأيت كلَّ المظالم التي تُجرَى تحت الشمس: فهوذا دموعُ المظلومين ولا معزٍّ لهم، ومن يد ظالميهم قهرٌ، أمَّا هم فلا معزٍّ لهم." (جامعة 1:4) أما سفر المزامير فلم يغضَّ الطَّرْف عن جَور الإنسان لأخيه الإنسان إذ يقول: "حتى متى تقضون جَوْرًا وترفعونَ وجوهَ الأشرار؟ اِقضوا للذَّليل ولليتيم. أنصِفوا المسكينَ والبائس. نجُّوا المسكين والفقير. من يد الأشرار أنقِذوا." (مزمور 3:82) وأختم بقول النبي إشعياء: "تعلّموا فعلَ الخير. اطلبوا الحقَّ. انْصِفوا المظلوم. اقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة." (17:1أ)
إنَّ حياةَ الإنسان - كلِّ إنسان بغضّ النظر عمَّن هو - ثمينةٌ جدًا في نظَر الله الخالق لأنَّ الإنسانَ مخلوقٌ على صورته ومثاله. وهي أغلى ما في الوجود لأنَّ الله أرسل ابنَه الوحيد الرب يسوع المسيح لكي يفتديها من عقاب الخطية الذي هو الموت والانفصال عنه. فأتى المسيح لكي يمنح الإنسان حياة جديدة وينير له الطريق لأنه النور الحقيقي. وترك لنا مثالًا نحتذي به في كيفية معاملة الواحد منا للآخر ووصف مَن يتبع مثاله هذا بالمبارك: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم. لأنِّي جِعتُ فأطعمتموني. عطشتُ فسقيتموني. كنتُ غريبًا فآويتموني. عريانًا فكسوتموني. مريضًا فزرتموني. محبوسًا فأتيتم إليّ... الحقَّ أقول لكم: بما أنَّكم فعلتموه بأحدِ إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم." (متى 34:25-40)
إزاءَ هذه الكلمات النورانيَّة لِنَنْهضْ من غفوتنا فنقدِّم العون والمساعدة لكلِّ محتاج، ومتألّم، وحزين، ويتيم، ومريض، وعريان ومهجّر! ولنتَخلَّ عن مسافة الأمان التي أحطْنا أنفسنا بها ولننخرطْ في عون العالم المحتاج في هذه الظروف الصعبة. عندها لن يبقى إيماننا المسيحي مجرَّد شعار نحملُه على صدورنا بل يُضحي يدًا نمدُّها لكلِّ مقهور ومظلوم بقدر ما نستطيع.

المجموعة: شباط (فبراير) 2024

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

164 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10628183